للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليتدرج بذلك إلى الفوز والنجاة والخلاص من العذاب والنكد " (١) ، فكل العلوم ومنها التاريخ أدوات توصل في النهاية إلى الفوز والنجاة، وهي المطلب الأسمى، وذلك عن طريق ما تؤديه تلك العلوم من فهم للخالق وإقرار بالنبوة، وإسعاف على فهم علم الشريعة جملة؛ وقد بلغ ابن حزم هذا الموقف على أثر الإخفاق السياسي الذي منيت به الأندلس بعيد الفتنة البربرية، وإخفاقه هو في الاحتفاظ بالمجد الدنيوي أو في العمل السياسي، وفي ما أصبح يعانيه من وضع اقتصادي، وكان البديل عن كل ذلك زهدية معتدلة توجه خطواته، وتحدد غايته على نحو واضح، وهي التوجه الكلي إلى الآخرة، والإكباب على الشريعة وتسخير جميع القوى والروافد في خدمتها؛ وقد فعلت في نفسه تلك الكلمة التي سمع محمد بن إسحاق الزاهد يقولها لأبيه: " احرص على أن لا تعمل شيئاً إلا بنية فإنك تؤجر في جميع أعمالك، فإنك ترى ذلك في ميزان حسناتك " (٢) ؛ وقد لقنته الفتنة درساً عميقاً وأملت عليه قبول التقلب في ارتفاع وهبوط، دون تذمر أو شكوى، وكانت تعرض له تلك الحكمة التي سمعها من أبيه ذات يوم:

إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن ... (٣) على حالة إلا رضيت بدونها وأخذ يبحث في التاريخ عن النموذج الأعلى الذي تمثله هذه الحكمة، فوجده في الرسول، ولهذا لخص طريقته في الحياة بكلمات عميقة الدلالة: يلبس الشعر إذا حضره، ويلبس الوشي من الحبرات إذا حضره،.... ومرة يأكل التمر دون خبز، والخبز يابساً، ومرة يأكل العناق المشوية ... يأخذ القوت ويترك الفضل، ويترك ما لا يحتاج إليه، ولا يتكلف فوق مقدار الحاجة إليه (٤) ....

بل إن علم الشريعة نفسه الذي يرفده الاطلاع على سائر العلوم لا يطلب من أجل ذاته أو من أجل الدنيا، " واعلم أن من طلب علم الشريعة ليدرك به رياسة أو يكسب به مالاً فقد هلك، لأنه طلبه لغير ما أمره به خالقه أن يطلبه، لأن خالقنا، عز وجل، إنما أمرنا أن نطلب ما شرع لنا لننجو به بعد الموت من العذاب والسخط ... (٥) ".


(١) رسائل ابن حزم (١٩٥٤) : ٧٤.
(٢) الجذوة: ٤١.
(٣) الصلة: ٣١.
(٤) رسائل ابن حزم (١٩٥٤) : ١٤٣، والجزء الأول من رسائله (١٩٨٠) : ٣٧٧.
(٥) رسائل ابن حزم (١٩٥٤) : ٥٥ " من رسالة التوقيف على شارع النجاة.... ".

<<  <  ج: ص:  >  >>