للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقوله ابن كثير يعد " ملمحاً " جيداً وإن لم يثبت في بعض أجزائه للمناقشة، ولكنه يفتح الباب للقول بأن ابن حزم الذي أنكر العلل - مثلاً - في الشريعة إنما كان في محاكماته للأخبار التاريخية يبحث عن الأسباب والعوامل الكامنة وراء تلك الأحداث والأخبار، وأنه كان يفيء إلى تحكيم العقل في طبيعة الخبر، إلى جانب اعتماد توثيق الرواة، حتى في بعض ما يدرجه غيره ضمن الأحاديث نفسها. ولنأخذ مثلاً واحداً على ذلك وهو حديث " هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر " فقد رواه سليمان بن محمد الخزاعي عن هشام بن خالد عن بقية عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة فرده ابن عبد البر بقوله: " سليمان لا يحتج به " أي أنه لم يقبل الحديث لضعف الراوي (١) . وقال فيه ابن حزم: وقد أقدم قوم فنسبوا هذا القول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا باطل ببرهانين: أحدهما أنه لا يصح من جهة النقل أصلاً ... والثاني أن البرهان قد قام على أن علم النسب علم ينفع، وجهل يضر في الدنيا والآخرة ولا يحل لمسلم أن ينسب الباطل المتيقن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (٢) ، فاتكأ على المنهجين معاً في رفضه أن يكون ذلك القول حديثاً.

كل تلك العوامل من سعة الاطلاع وخبرة بالإنسان وأحوال العمران الإنساني وصحة في التصور ودقة في النقد، النقلي والعقلي، كانت متوفرة لدى ابن حزم ليكون في طليعة المؤرخين، ولكنه لم يصبح كذلك، واكتفى بموقف هامشي للتاريخ في مؤلفاته، ولا بد أن يكون لهذه الظاهرة أسبابها. وفي مقدمة تلك الأسباب النظر إلى التاريخ على أنه أداة لا غاية في ذاته، وأنه يفيد في شيئين: التربية النفسية الأخلاقية، وخدمة الشريعة (كالحال في سائر العلوم عدا الشريعة) " فإن اشتغل مغفل عن علم الشريعة بعلم غيره فقد أساء النظر وظلم نفسه، إذ آثر الأدنى والأقل منفعة على الأعلى والأعظم منفعة، فإن قال قائل إن في علم العدد والهيئة والمنطق معرفة الأشياء على ما هي عليه، قلنا إن هذا حسن إذا قصد به الاستدلال على الصانع للأشياء بصنعته،


(١) لسان الميزان ٣: ١٠٣ - ١٠٤.
(٢) الجمهرة: ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>