للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سبباً إلى انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائهم عليهم عن حياطة ملتهم التي بها عزوا في هاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم ... " (١) ويقول في موضع آخر: " وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب. وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أندلسنا هذه أولها عن آخرها محارب لله تعالى ورسوله وساع في الأرض بفساد، والذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية ... وإباحتهم لجندهم قطع الطريق ... ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية والضريبة من أهل الإسلام، معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله، غرضهم فيها استدام نفاذ أمرهم ونهيمهم.... (٢) ثم يقول: " والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم.... وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه " (٣) . ومن كان يحمل هذه النظرة، فإنه لا يرى في اللجوء إلى التاريخ " منقذاً " لنفسه ولغيره، بل هو يرى فيه تخليداً لأعمالٍ ظالمة لا يقرها، ولا تضيف شيئاً كثيراً إلى العبرة المستمدة من سير الظالمين على مدى العصور.

وليس من الغلو في الاستنتاج أن يقال إن اختيار ابن حزم للظاهر، إنما كان ثورة في الأساس على ما لا يرضاه من سلوك العلماء الذين يتقربون من الحكام؛ وليس معنى ذلك أن جميع العلماء - وخاصة المالكية - كانوا يفعلون ذلك، بل كان فيهم الصالحون الذين يشاركون ابن حزم في ثورته على الظلم ومبارحة الشريعة، ولكن اختياره للظاهر، يجعل أولئك الحكام في غير حاجة إليه، فيبعده عنهم ويبعدهم عنه، ويمكنه من الاستقلال العلمي والاقتصار على تخريج الطلبة، وهكذا اتخذ من التمذهب للظاهر حجاباً يحول بينه وبين تقديم الفتاوى لهم أو المشاركة في تسويغ أفعالهم؛ وقد لحظ هو وابن حيان معاً ظاهرة التعاون بين بعض رجال الدين والحكام فسمى هو مثل أولئك العلماء فساقاً ينتسبون إلى الفقه، ويلبسون جلود ضأن على قلوب


(١) الرد على ابن النغريلة: ٤٧.
(٢) الرد على ابن النغريلة: ١٧٣ - ١٧٤.
(٣) المصدر السابق: ١٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>