للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سباع، ويزينون لأهل الشر شرهم (١) . وقال ابن حيان يصف وحدة الحال بين الفريقين: " ولم تزل آفة الناس مذ خلقوا في صنفين منهم، هم كالملح فيهم، الأمراء والفقهاء، قلما تتنافر أشكالهم، بصلاحهم يصلحون، وبفسادهم يردون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا هذين، بما لا كفاية له ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون قد نكبوا بهم عن نهج الطريق ... والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صدوف عما أكد الله عليهم في التبيين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم، خائض في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم آخذ بالتقية في صدقهم، وأولئك هم الأقلون فيهم، فما القول في أرض فسد ملحها الذي هو المصلح لجميع أغذيتها! " (٢) .

ومواطن اللقاء بين الرجلين متعددة، ولكن لا تلبث أن تفترق بهما الطريق، فأما ابن حيان فقد وسع من جنبات التاريخ ليصبح شاهداً لا على عصره وحده، بل على تاريخ الأندلس كله، معتمداً التفصيلات التي لا يكاد يضيع منها شيء (٣) ، شاملاً بنظره جميع مظاهر الحياة الإنسانية، واقفاً في الوقت نفسه موقف الإدانة لعصره - كما فعل ابن حزم - إلا أنها إدانة شمولية موثقة بشواهدها. وأما ابن حزم فضاق نطاق التاريخ عنده - على معرفته الدقيقة بدقائقه وتفصيلاته - (وأكبر شاهد على ذلك نقط العروس) ، ولذلك اكتفى بأن يستخدمه في غايات محددة لا يعدوها: منها الغاية التعليمية التي جعلته يتوفر على تلخيص ما لا بد للدارس من معرفته، فلخص السيرة والفتوح الإسلامية وأسماء الخلفاء في المشرق والمغرب ومدد حكم كل منهم، ولخص أنساب العرب والبربر في موجز جامع؛ ومنها الاستدلال بالتاريخ على القضايا المتصلة بالأديان وتواريخها، ولهذا لخص تاريخ اليهود - لا من أجل التاريخ نفسه، بل من أجل أن يثبت عدم التزام اليهود بالتوراة في أكثر العهود؛ ومنها إثارة النظر الإنساني إلى العجائب والنوادر، ولهذا ذهب يجزئ التاريخ في قضايا صغيرة مثيرة، فكتب " نقط العروس "؛ ولعله لم يخرج في تأريخه لغزوات المنصور بن أبي عامر عن روح الإيجاز التي سيطرت عليه في كتاباته التاريخية الأخرى.

وقد أثر فيه نهج المحدثين في الجرح والتعديل، فجعل أحكامه التاريخية نموذجاً


(١) المصدر السابق: ١٧٤.
(٢) الذخيرة ١/٣: ١٨٠ - ١٨١.
(٣) انظر مقدمة الدكتور مكي علي المقتبس (ط. مصر) ص: ٨٧ وبخاصة: ٩٨ حيث يتحدث عن اللقاء في النظرة إلى الفتنة بين ابن حزم وابن حيان.

<<  <  ج: ص:  >  >>