للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى أن تغلب عليهم بنو العباس بالمشرق، وانقطع بهم ملكهم، فسار منهم عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، وملكها هو وبنوه، وقامت به دولة بني أمية نحو الثلاثمائة سنة، فلم يك في دول الإسلام أنبل منها، ولا أكثر نصراً على أهل الشرك، ولا أجمع لخلال الخير، وبهدمها انهدمت الأندلس إلى الآن، وذهب بهاء الدنيا بذهابها. وانتقل الأمر بالمشرق إلى بني العباس ... وكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلب عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر ملكاً عضوضاً محققاً كسروياً.... " (١) .

وفي مثل هذا الحكم على الدول يتضح " الجانب التركيبي " في نظرات ابن حزم، بحيث يستطيع المرء أن يحل هذه المركبات في بحوث مفردة، وتبدو في ذلك مهارة ابن حزم في انتقاء السمات المميزة، مثلما يبدو جانب هام آخر من حس المؤرخ لديه، وذلك أنه لا ينظر إلى منجزات الدولة الواحدةنظرته إلى بعض الأفراد من ذوي المسؤولية فيها، وإنما يرى هذه المنجزات من منظار المميزات الكبرى، وتلك تتجلى في ما أصاب الجماعة من خير، فقد يعيب هو الوليد بن عبد الملك ويصفه بالطغيان (٢) أو يعيب مروان بن الحكم ويتهمه بأنه شق عصا الجماعة ويقول فيه: " مروان ما نعلم له جرحة قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما " (٣) ولكنه يبرز الخصائص الإيجابية التي تتميز بها الدولة الأموية بكلمات دقيقة دالة، ولا يضع سيئات الأفراد على كاهل الدولة كلها.

ومع ذلك نجد ابن حيان يقول فيه: " وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم بالمشرق والأندلس، واعتقاده لصحة إمامتهم، وانحرافه عمن سواهم من قريش حتى نسب إلى النصب لغيرهم " (٤) . وهذه المقولة تستحق نقاشاً متأنياً، وأول ما يجب أن نقف عنده لفظة " تشيعه "، فهذه اللفظة تدلُّ على الموالاة والمحبة والتقدير، دون أن يدخل فيها معنى العصبية التي قد تؤسس أحياناً على غير حق وتصبح تعصباً؛ وهذا " التشيع " يتفق وما قلناه عن تقديره لدور الدولة جملة، ولكنه لا يعني إغماض الطرف عن سيئاتها وعن سيئات القائمين على أمورها؛ ويكفي


(١) البيان المغرب ٢: ٣٩ - ٤٠.
(٢) نقط العروس، الفقرة (ف) : ٢٢، ص: ٧١.
(٣) مقدمة جوامع السيرة: ١٢ - ١٣ نقلاً عن المحلى ١: ٢٣٦.
(٤) الذخيرة ١/١: ١٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>