الرسالة عن الكتاب الثاني. ومنزع الاتهامات في الرسالتين واحد، وإن كانت تلك الاتهامات في الرسالة السابقة اعم واكثر وقد أديت بلهجة محاور هادئ نسبياً. أما في هذه الرسالة فإن من بعد امرؤ غاضب يعتمد الشتم والبذاء أكثر مما يعتمد الاحتجاج، فهو يتهم ابن حزم بأنه مفتون جاهل أو متجاهل وأنه ينطوي على خبث سريرة وأنه قليل الدين ضعيف العقل قليل التمييز والتحصيل، وأنه نبغ في آخر الزمان بعيداً عن القرون الأولى الممدوحة في وقت غلبت عليه قلة العلم وكثرة الجهل (وفي هذا يشركه أيضاً الهاتف من بعد دون أن يدري) وهو ينذره بضرورة التوبة فغن لم يفعل فإنه سيستعدي عليه أهل العلم في أقطار الأرض ليفتوا بآرائهم في من كان على مثل حاله، ويختم ذلك داعياً أن يريح الله العباد والبلاد من ابن حزم أو يصلحه إن كان سبق ذلك في علمه.
ومع أن هذا السيل من الهجاء يمكن أن يعد هراء لا يغير حقيقة ولا يثبت تهمة، فإن ابن حزم جزأ أقوال هذا الهاتف في أربعة عشر موقفاً، ورد على كل موقف، حتى إن الهاتف حين قال " أنائم أنت أيها الرجل بل مفتون جاهل أو متجاهل " أجابه ابن حزم بهدوء شديد، ملتزماً الفهم الحرفي الظاهري لما أورده ذلك الهاتف فقال: فما نحن ولله الحمد إلا أيقاظ إذا استيقظنا ونيام إذا نمنا، وأما الفتنة فقد أعاذنا الله منها وله الشكر واصباً وأما وصفك لنا بالجهل فلعمري إننا لنجهل كثيراً مما علمه غيرنا، وهكذا الناس، وفوق كل ذي علم عليم (الفقرة: ٤ في الرسالة) .
وهذا السيل من الشتائم يدور حول تهمتين ترددنا في الرسالة السابقة:
(١) أولاهما أن ابن حزم يطعن على سادة المسلمين وأعلام المؤمنين ويقذفهم بالجهل، بل تخطى ذلك إلى الصحابة، وقال انهم ابتدعوا في الرأي وطعن عليهم وسفه آراءهم، وذهب به الاعتداد بالنفس حداً بعيداً حين ظن أنه قد صح له ما لم يصح للصحابة، ومن ثم فهو متناقض لأنه يدعو إلى عدم تقليد الصحابة ويحث أتباعه على تقليده.
والرد على هذه التهمة سهل، فابن حزم لم يطعن على أحد من أعلام المؤمنين وسادة المسلمين لا من الصحابة ولا ممن جاء بعدهم، بل هو يأخذ دينه مما نقله هؤلاء عن الرسول (ص) ، وهو يعتقد انه أصح تقديراً للصحابة والأئمة السابقين لأنه جرى على سنتهم في رفض الرأي والقياس والتقليد، وهو لا يتعصب لإمام على إمام كما يفعل