للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان من أقوى التصانيف جاذبية ذلك التقسيم الثلاثي الذي يستنتج من موقف أرسطاطاليس، أعني قسمة العلوم إلى علوم نظرية وعلوم عملية وعلوم منتجة أو آلية (ميكانيكية) ، ثم على وجه الخصوص قسمة العلوم النظرية في ثلاثة أيضاً هي العلم الرياضي والعلم الطبيعي والعلم الإلاهي (المتافيزيقا) (١) ، وقد وجدت هذه القسمة الأخيرة صيغتها الحاسمة لدى ابن سينا (٤٢٨ / ١٠٣٦) حين لم يكتف بأخذها كما هي بل أعطاها من الوصف ما ينبئ عن تدرج في القيمة، إذ وضع العلم الطبيعي في القاعدة وسماه العلم الأسفل، وجعل العلم الإلاهي في الأعلى، وسمى العلم الرياضي العلم الأوسط (٢) ؛ وقد كان لهذه التسمية الجديدة أثرها في مختلف الفئات، وعندما وصلت في تأثيرها إلى فقيه مثل ابن عبد البر النمري في القرن الخامس (٤٦٣ / ١٠٧١) تحول بها إلى ما يخدم الغاية الدينية فقال: " والعلوم عند جميع أهل الديانات ثلاثة: علم أعلى وعلم أسفل وعلم أوسط، فالعلم الأعلى عندهم علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزل الله في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم نصاً، والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره، ويستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة، والعلم الأسفل هو إحكام الصناعات وضروب الأعمال مثل السباحة والفروسية والزي والتزويق والخط وما أشبه ذلك من الأعمال التي هي أكثر من أن يجمعها كتاب أو يأتي عليها وصف وإنما تحصل بتدريب الجوارح فيها " (٣) . ولم يكن ابن عبد البر غافلاً عما أحدثه من تغيير في التصنيف الفلسفي لأنه أضاف قائلاً: " وهذا التقسيم في العلوم كذلك هو عند أهل الفلسفة، إلا أن العلم الأعلى عندهم هو علم القياس في العلوم العلوية التي ترتفع عن الطبيعة والفلك، مثل الكلام في حدوث العالم وزمانه والتشبيه ونفيه وأمور لا يدرك شيء منها بالمشاهدة ولا بالحواس " (٤) ، وهو يعتقد أن هذا علم عنه لأن الكتب السماوية الناطقة بالحق والصدق قد قامت مقامه.


(١) G. Sarton، Introduction to the History of Science، Baltimore، p. ١٢٨، n. b.
(٢) تسع رسائل لابن سينا: ١٠٥.
(٣) جامع بيان العلم ٢: ٤٦.
(٤) جامع بيان العلم ٢: ٤٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>