للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن هذا النموذج الأرسطاطاليسي السينوي ظل هو المحور المعتمد في كل تصورٍ لأصناف العلوم، ولكن بدلاً من طرح العلم الأعلى عند الفلاسفة ووضع علم آخر موضعه كما فعل ابن عبد البر أصبح جهد المصنفين موجهاً نحو الإبقاء عليه كما هو، واستحداث مركب آخر ثنائي يقسم العلوم في قسمين: علوم الدين وعلوم الدنيا، أو علوم المسلمين وعلوم الأوائل، أو العلوم النقلية والعلوم العقلية، إلى غير ذلك من تسميات خلدت هذا التوزاي على مرّ الزمن. ولا ندري متى بدأت هذه الرؤية الثنائية تجد طريقها إلى التصنيف، ولكنا نعتقد أنها أقدم بكثير من التقسيمات الثلاثية، وأنها ربما كانت وليدة اشتداد حركة الترجمة في القرن الثاني الهجري، ذلك أنا نجدها عند جابر بن حيان (٢٠٠ / ٨١٥) الذي يرى أن العلوم تقع في ضربين: علم الدين وعلم الدنيا (١) ؛ إلا أننا إذا استرسلنا مع جابر في تفريعاته وجدناه يبني منهجاً غايةً في الغرابة، فيقسم العلوم الدينية إلى شرعية وعقلية، والشرعية ظاهرة وباطنة، والعقلية نوعان: علوم معانٍ وعلوم حروف، فعلوم المعاني نوعان: فلسفة وإلهية وعلوم الحروف تنقسم أيضاً إلى قسمين: طبيعي وروحاني، فالطبيعي إلى أربعة: هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسية، والروحانية ينقسم بدوره إلى نوراني وظلماني. ذلك هو الهيكل الذي تمثل أركانه العلوم الدينية؛ أما العلوم الدنيوية فيقسمها جابر بحسب قيمتها إلى علم شريبف وعلم وضيع: فالعلم الشريف هو الكيمياء المجال الذي اختاره جابر لفكره وتجاربه والوضيع هو علم الصنائع التي تعين الإنسان على الكسب الدنيوي (٢) .

وليس من الواضح إن كان الكندي (٢٦٠ / ٨٧٣) قد اعتمد القسمة الثنائية على نحو ما، فإن رسالتيه اللتين قد توضحان موقفه لم يصلا إلينا وهما: كتاب مائية العلم وأقسامه وكتاب أقسام العلم الإنسي (٣) ، غير أن استخدامه لفظة " الإنسي " في عنوان الكتاب يوحي بأنه كان يرى للعلوم مصدرين أحدهما إنساني، وذلك ما يدل عليه قوله في رسالته في كمية كتب أرسطاطاليس وما يحتاج إليه في تحصيل الفلسفة: " فإن عدم عادم علم الكمية وعلم الكيفية، عدم علم الجواهر الأولى والثواني فلم يطمع له


(١) رسائل جابر بن حيان (كتاب الحدود) : ١٠٠ وانظر أيضاً منهج البحث عند العرب لجلال محمد عبد الحميد موسى (بيروت ١٩٧٢) ص: ٦١.
(٢) انظر التعليق السابق.
(٣) الفهرست لابن النديم: ٣١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>