للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في دار الخلود ووصل إلى الفوز في دار البقاء " (١) ، وذلك هو علم الشريعة، إذ حقيقة العلم ما ينفع في الدار العاجلة والآجلة؛ وليس معنى هذا أن العلوم الأخرى مطرحة، بل كل علم منها له فضل في ذاته وفضل في أنه درجة تصل بصاحبها إلى إتقان العلم الأسمى؛ ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يحيط بالعلوم كلها فإنه ينصح بأن يأخذ من كل علم بنصيب، " ومقدار ذلك معرفته بأعراض ذلك العلم فقط ... ثم يعتمد العلم الذي يسبق فيه بطبعه وبقلبه وبحيلته فيستكثر منه ما أمكنه، فربما كان ذلك منه في علمين أو ثلاثة أو أكثر على قدر زكاء فهمه وقوة طبعه وحضور خاطره وإكبابه على الطلب ... " (٢) وهنا يعود ابن حزم ليقرر الحد الأدنى الصالح من كل علم ولكن على نحو متدرج لكي يرسم برنامجاً تربوياً للدراس، يوصله في النهاية إلى إتقان علم الشريعة، وهذا هو المنهج الإسلامي الذي يضعه ابن حزم عامداً فيما أظن إزاء المنهج الأفلاطوني الذي تطلب فيه العلوم بالتدريج أيضاً للبلوغ إلى مرحلة الديالكتيك، كما يعرف كل من له إلمام بمنهجه التعليمي في كتاب الجمهورية.

ولكن ما هي هذه العلوم التي يفترض في الدارس أن يعرفها هنا يفارق ابن حزم ذلك التعداد الذي أوصلها من قبل إلى أربعة عشر علماً، ليضع قاعدة جديدة في التصنيف لم يتنبه لها أحد سوى الفارابي على نحو عام، وهي أن العلوم عند كل أمة وفي كل زمان ومكان سبعة: ثلاثة علوم تتميز بها أمة عن أخرى وهي علم شريعتها وعلم أخبارها وعلم لغتها، وأربعة تتفق فيها الأمم وهي علم النجوم وعلم العدد وعلم الطب وعلم الفلسفة (٣) ؛ إن العودة إلى سحر الرقم سبعة في هذه القسمة يجب أن لا يوقع في الوهم بأنها متناقضة مع القسمة الأولى إلى أربعة عشر، لأن التدقيق يجعلنا نرى أن علوم الأوائل (أو العلوم المشتركة بين الأمم) كانت بحسب الإحصاء الأول أربعة، وهي كذلك في الإحصاء الثاني بفرق واحد وهو وضع الفلسفة في موضع المنطق لأنها أعم في الدلالة؛ أما العلوم الخاصة بكل أمة على حدة فإن ما عد في الإحصاء الأول هو تفريعاتها؛ فعلم الشريعة يساوي في الإحصاء الأول: علم القرآن. الحديث. المذاهب. الفتيا (مع وضع لفظتي الكلام والفقه موضع المذاهب والفتيا) ؛ وعلم اللغة يساوي اللغة. النحو. الشعر؛ وعلم الخبر على حاله في كليهما؛ ثم هناك علمان في


(١) رسائل ابن حزم: ٦٢.
(٢) رسائل ابن حزم: ٧٣.
(٣) رسائل ابن حزم: ٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>