للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كان من الطبيعي اللجوء إلى تلك القسمة الثنائية في النظرة إلى العلوم، كما كان من الطبيعي التفاوت بين المنصفين في إيلاء الأهمية أو الأفضلية لهذا القسم من العلوم دون ذاك؛ وقد استطاع ابن حزم أن يتجاوز حتى مفهوم " التكافؤ " بين الشقين، حين وضع نصب عينيه أن كل شر يفعله المرء من علم وغيره فيجب أن يقوم بأدائه خالصاً لله، وعلى أساس هذه الحقيقة نظر إلى أن العلوم كلها تخدم غاية واحدة " وإجهاد المرء نفسه فيما لا ينتفع به إلا في هذه الدار من العلوم رأي فائل وسعي خاسر، لأن المنتفع به في هذه الدار من العلوم إنما هو ما أكتسب به المال أو ما حفظت به صحة الجسم فقط فهما وجهان لا ثالث لهما " (١) ويرى ابن حزم أن العلم ليس أحسن السبل لكسب المال كما أن حفظ صحة الجسد لا بد أن تكون تابعة لحفظ صحة النفس، ولهذا استطاع أن يوحد الغاية من خلال تصنيفه فيراها في طلب علم الشريعة، مثلما كانت سائر العلوم عند المصنفين المتفلسفين في خدمة الفلسفة. فالشريعة تصلح الجسد والنفس معاً، ولهذا فهي مقدمة على الفلسفة التي هي مقصورة على إصلاح الأخلاق النفسية، ولا يمكن إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون النبوة إذ طاعة غير الخالق عز وجل لا تلزم. والشريعة تحقق غايتين أخريين لا تحققهم الفلسفة، وهما: ترتيب الوضع الإنساني بدفع التظالم وإيجاد الأمن في هذه الدنيا، والفوز بالنجاة في الآخرة (٢) . وعلى هذا الأساس لا ترفض الفلسفة بل تندمج مع سائر العلوم في خدمة الشريعة، ولا ينكر ابن حزم ما لها من فائدة شأنها شأن سائر العلوم النافعة؛ وبذلك تجاوز ابن حزم التقسيم الثنائي للعلوم، وهو على وعي به، ليربط جميع العلوم معاً في تساندها وشد بعضها أزر بعض " فالعلوم كلها متعلق بعضها ببعض " ومن ثم لا يستغني منها علم عن غيره. وفي هذا يتجلى لنا إلى أي حد فارق ابن حزم المصنفين المشارقة في الرؤية والتنظير، وإذا كان ابن عبد البر يلتقي به، فذلك مما لا غرابة فيه، فقد كان الرجلان صديقين وبينهم مجالات اللقاء كثيرة في الرواية وتبادل الآراء، ولعل ابن حزم هو صاحب التأثير الواضح في معاصره، فقد تمت كتاباته في العلوم ومراتبها في دور مبكر، ونحن نرى في تصوره رسوخاً ووضوحاً أقوى من تصور ابن عبد البر وأشد منه احتفالاً بالموضع نفسه. وتبدو جرأة ابن حزم لا في أنه عكس وضع التصنيفات المشرقية وحسب بل في أنه خلافاً للاتجاه العام بين


(١) رسالة مراتب العلوم (الطبعة الأولى) : ٦١ (ضمن رسائل ابن حزم) .
(٢) رسائل ابن حزم: ٤٦ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>