للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس للمرء إلا داران: دار الدنيا، ودار معاده إذا فارق الدنيا؛ وبيقين ندري (١) أن مدة المقام في هذه الدار إنما هي أيام قلائل. وإجهاد المرء نفسه فيما لا ينتفع به إلا في هذه الدار من العلوم رأي فائل، وسعي (٢) خاسر، لأن المنتفع به في هذه الدار من العلوم، إنما هو ما اكتسب به المال، أو ما حفظت به صحة الجسم فقط، فهما وجهان لا ثالث لهما. فأما العلوم التي يكتسب بها المال فإن وجه المكسب بها ضيق غير متسع، واكتساب المال بغير العلم أجدى وأشد توصلاً إلى المراد من التوسع في [العلم] (٣) لكسب المال، كصحبة السلطان وعمارة الأرض والتقلب في التجارات. وهذه الوجوه كلها قد نجد الجاهل الأغتم أنفذ (٤) فيها من العالم النحرير؛ فإذ ذاك كذلك، فالشغل بطلب العلم ليكون سبباً إلى كسب المال والتعب فيه بهذه النية عناء (٥) وظلال، وفاعله قد جمع عيبين عظيمين: أحدهما ترك أخصر الطريقين إلى مطلوبه وأسهلها في التوصل إلى غرضه، ورك أوعرهما مسلكاً وأطولهما تعباً وأقلهما فائشدة وأبعدهما منفعة. والوجه الثاني أنه استعمل الفضيلة التامة التي بان بها عن الحشرات والبهائم في اقتناء حجارة لا يدري متى تدعه أو يدعها، وكان كمن أتعب نفسه وأسهر ليله وأطال كده في إقامة سيف هندي قاطع نفيس، وبنى داراً سرية أنيقة البناء محكمة النقوش (٦) ، موثقة الأساس، فلما تما له كما أراد جعل يستعمل في كسر العظام وقطع البقل، وأوقف الدار لطرح ما يكنس فيها من الحشيش (٧) ، فمن أخسر صفقة من هذا!!.

وأما العلم الذي ليس فيه إلا حفظ صحة الجسم فقط، فإن المتعب فيه بدنه،


(١) ص: يدري.
(٢) ص: قاتل، وبيع.
(٣) زيادة يقتضيها السياق.
(٤) ص: انفسد.
(٥) ص: عياء.
(٦) ص: النفوس.
(٧) ص: الحسوس.

<<  <  ج: ص:  >  >>