للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأعطى تافهاً وأخذ عظيماً (١) . وهو الذي عرف ما لا يبقى معه فزهد فيه، وميز ما لا يزايله فسعى له، ونسأل الله أن يجعلنا في عدادهم بمنه آمين.

وباليقين يدري كل ذي [لب] (٢) سليم أنه لا يتوصل إلى العلوم إلا بطلب، ولا يكون الطلب إلا بسماع وقراءة وكتاب، لا بد من هذه الثلاث خصال، وإلا فلا سبيل دونها إلى شيء من العلوم ألبتة. فإذ ذلك كذلك فلنتكلم بعون الله تعالى على وجه التوصل إلى العلوم، وبيان أفضلها صفةً وأعلاها قدراً، والذي بالناس إليه الضرورة الماسة، والفاقه الشديدة، والحد الذي لا يجزئ منه ما دونه، والنهاية التي لا وراء لها منه.

فالواجب على من ساس صغار ولدانه وغيرهم أن يبدأ منذ أول اشتدادهم وفهمهم ما يخاطبون به، وقوتهم على رجع الجواب وذلك يكون في خمس سنين أو نحوها من مولد الصبي فيسلمهم [إلى مؤدب] (٣) في تعليم الخط وتأليف الكلمات من الحروف، فإذا درب الغلام في ذلك، درس (٤) وقرأ. والحد الذي لا ينبغي أن يقتصر المعلم على أقل منه أن يكون الخط قائم الحروف، بيناً صحيح التأليف الذي هو الهجاء، فإن الخط إن لم يكن هكذا لم يقرأ إلا بتعب شديد. وأما التزيد في حسن الخط فليس هو فضيلة بل لعله داعية إلى التعلق بالسلطان، فيفني دهره إما في ظلم الناس، وإما في تسويد القراطيس بتواقيع بعيدة (٥) من الحق، مشحونة بالكذب والباطل، فيضيع زمانه باطلاً، وتخسر صفقته، ويندم حين لا ينفعه الندم، وكان كإنسان مسكاً كثيراً فترك أن يصرفه في التطييب به ومداواة النفوس بريحه وفغوته (٦) وأقبل يطيب به البهائم، ويصبه في الطريق حتى فني في غير فائدة. فهذا [حدّ] تعليم الكتاب.


(١) ص: تانيها ... عظيمها.
(٢) زيادة لازمة.
(٣) زيادة يقتضيها.
(٤) ص: ودرب.
(٥) ص: بعيد.
(٦) ص: وقوته؛ والفغوة: الرائحة الطيبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>