للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقوله: "تملأ كلَّ أذن حكمة" من الكلام الحسن، وهو أحسن ما في البيت، فإذا أرَدْتَ أن تنثر هذا المعنى فلا بُدَّ من استعمال لفظه بعينه؛ لأنه في الغاية القصوى من الفصاحة والبلاغة، فعليك حينئذ أن تؤاخذه بمثله، وهذا عَسِرٌ جدًّا, وهو عندي أصعب منالًا من ناثر الشعر بغير لفظه؛ لأنه مسلك مضيق، لما فيه من التعرض لمماثلة ما هو في غاية الحسن والجودة.

وأمَّا نثر الشعر بغير لفظه، فذلك يتصرَّف فيه ناثره على حسب ما يراه، ولا يكون فيه بمثالٍ يضطر إلى مؤاخاته.

وقد نثرت هذه الكلمات المشار إليها, وأتيت بها في جملة كتاب فقلت: "وكلامي قد عرف بين الناس واشتهر، وفاق مسير الشمس والقمر، وإذا عرف الكلام صارت المعرفة له علامة، وأُمِنَ من سرقته إذ لو سرق لدلَّت عليه الوسامة، ومن خصائص صفاته أنه يملأ كل أذن حكمة، ويجعل فصاحة كل لسان عجمة، وإذا جرت بفثاته في الأفهام قالت: أهذه بنت فكرة أم بنت كرمة؟ ".

فانظر كيف فعلت في هذا الموضع? فإني لمَّا أخذت تلك الكلمات من البيت الشعري التزمت بأن أؤاخيها بما هو مثلها أو أحسن منها، فجئت بهذا الفصل كما تراه، وكذلك ينبغي أن يفعل فيما هذا سبيله.

وأما القسم الثالث وهو أعلى من القسمين الأولين:

فهو أن يؤخذ المعنى، فيصاغ بألفاظ غير ألفاظه، وثَمَّ يتبين حِذْقُ الصائغ في صياغته، ويعلم مقدار تصرفه في صناعته، فإن استطاع الزيادة على المعنى فتلك الدرجة العالية، وإلّا أحسن التصرف، وأتقن التأليف، ليكون أولى بذلك المعنى من صاحبه الأول.

واعلم أنَّ من أبيات الشعر ما يتَّسع المجال لناثره، فيورده بضروب من العبارات، وذلك عندي شبيه بالمسائل السَّيالة في الحساب, التي يجاب عنها بعدة من الأجوبة، ومن الأبيات ما يضيق فيه المجال حتى يكاد الماهر في هذه الصناعة ألَّا يخرج عن ذلك اللفظ، وإنما يكون هذا لعدم النظير.

<<  <  ج: ص:  >  >>