للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثياب من الأحمر والأخضر, وجاء ذلك واقعًا على المعنى الذي أراده من لون ثياب القتلى وثياب الجنة، فإذا فكَّ نظم هذا البيت وأريد صوغه بغير لفظه لا يمكن ذلك.

وبيت أبي الطيب جارٍ هذا المجرى؛ فإنه بناه على واقعة من الوقائع، وذاك أن حصنًا من حصون سيف الدولة قصده الروم وانتزعوه وأخربوه, فنهد سيف الدولة إليه واسترجعه، وجدَّدَ بناءه, وهزم الروم، ونصب من جثث القتلى على السور، فنظم المتنبي في هذا قصيدًا أوله:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم١

فلمَّا انتهى إلى ذكر الحصن جاء بهذا البيت في جملة أبيات، فشرح صورة الحال في إزعاج الحصن بالقتال، وتعليق القتلى عليه، وأبرز ذلك في معنى التمثيل بالجنون والتمائم، وهذا لا يمكن تبديل لفظه، وهو وأمثاله مما يجب على الناثر أن يحسن الصنعة في فك نظامه؛ لأنه يتصدَّى لنثره بألفاظه، فإن كان عنده قوة تصرُّف وبسطة عبارة, فإنه يأتي به حسنًا رائعًا.

وقد نثرت هذين البيتين: أما بيت أبي تمام فإني قلت في نثره: "لم تكسه المنايا نسج شفارها، حتى كسته الجنة نسج شعارها، فبدَّل أحمر ثوبه بأخضره، وكأس حمامه بكأس كوثره". وهذا من الحسن على غاية يكون كَمد حسودها من جملة شهودها.

وأما بيت أبي الطيب المتنبي فإني قلت في نثره: "سرى إلى حصن كذا مستعيدًا منه سبيةً نزعها العدو اختلاسًا, وأخذها مخادعة لا افتراسًا، فما نزلها حتى استقادها، ولا نزلها حتى استعادها, وكأنما كان بها جنون, فبعث لها من عزائمه عزائم، وعلَّق عليها من رءوس القتلى تمائم". وفي هذا من الحسن ما لا خفاء به، فمن شاء أن ينثر شعرًا فلينثر هكذا وإلّا فليترك.


١ ديوان المتنبي ٣/ ٣٧٨ وعجز البيت:
وتأتي على قدر الكرام المكارم

<<  <  ج: ص:  >  >>