للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد جئت بهذا المعنى على وجه آخر، وأبرزته في صورة أخرى, وذاك أني أضفت إلى هذا البيت البيت الذي قبله وهو:

بناها فأعلى والقنا تقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم

ولما نثرت هذين البيتين قلت في نثرهما ما أذكره وهو: "بناها والأسنَّة في بنائها متخاصمة, وأمواج المنايا فوق أيدي البانين متلاطمة، وما أحلّت الحرب عنها حتى زلزلت أقطارها بركض الجياد، وأصيبت بمثل الجنون, فعلقت عليها تمائم من الرءوس والأجساد، ولا شكَّ أن الحرب تعرد عمَّن عزَّ جانبه، وتقول: ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه". وهذا أحسن من الأول وأتمَّ معنى.

وقد تصرَّفت في هذا الموضع بزيادة في معناه، ونثرته على أسلوب أحسن من هذا الأسلوب فقلت: "بناها ودون ذلك البناء شوك الأسل، وطوفان المنايا الذي لا يقال سآوي منه إلى جبل، ولم يكن بناؤها إلّا بعد أن هدمت رءوس عن أعناق، وكأنما أصيبت بجنون فعلقت القتلى عليها مكان التمائم, أو شينت بعطلٍ فعلقت مكان الأطواق". وهذا الفصل فيه زيادة على الفصل الذي قبله.

وإذا انتهى بنا الكلام إلى ههنا في التنبيه على نثر الشعر، وكيفية نثره, وذكر ما يسهل منه وما يعسر، فلنُتْبِعُ ذلك بقول كلي في هذا الباب فنقول:

من أحبَّ أن يكون كاتبًا، أو كان عنده طبع مجيب، فعليه بحفظ الدواوين ذوات العدد، ولا يقنع بالقليل من ذلك، ثم يأخذ في نثر الشعر من محفوظاته، وطريقه أن يبتدئ فيأخذ قصيدًا من القصائد، فينثره بيتًا بيتًا على التوالي، ولا يستنكف في الابتداء أن ينثر الشعر بألفاظه, أو بأكثرها، فإنه لا يستطيع إلّا ذلك، وإذا مرنت نفسه وتدرَّب خاطره، ارتفع عن هذه الدرجة, وصار يأخذ المعنى ويكسوه عبارة من عنده، ثم يرتفع عن ذلك حتى يكسوه ضروبًا من العبارات المختلفة، وحينئذ يحصل لخاطره بمباشرة المعاني لقاحٌ, فيستنتج منها معاني غير تلك المعاني، وسبيله أن يكثر الإدمان ليلًا ونهارًا، ولا يزال على ذلك مدة طويلة، حتى يصير له ملكة، فإذا كتب كتابًا, أو خطب خطبة, تدفَّقت المعاني في أثناء كلامه، وجاءت ألفاظه معسولة لا

<<  <  ج: ص:  >  >>