مغسولة، وكان عليها حدة حتى تكاد ترقص رقصًا، وهذا شيءٌ خبرته بالتجربة، ولا ينبئك مثل خبير.
فإن قيل: الكلام قسمان: منظوم ومنثور، فلم خصصت على حفظ المنظوم, وجعلته مادة للمنثور, وهلَّا كان الأمر بالعكس?
قلت في الجواب: إن الأشعار أكثر, والمعاني فيها أغزر، وسبب ذلك أن العرب الذين هم أصل الفصاحة جُلُّ كلامهم شعر، ولا نجد الكلام المنثور في كلامهم إلّا يسيرًا، ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم، بل المنقول عنهم هو الشعر، فأودعوا أشعارهم كل المعاني, كما قال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} ١, ثم جاء الطراز الأول من المخضرمين, فلم يكن لهم إلّا الشعر، ثم استمرَّت الحال على ذلك، فكان الشعر هو الأكثر، والكلام المنثور بالنسبة إليه قطرة من بحر، ولهذا صارت المعاني كلها مودعة في الأشعار، وحيث كانت بهذه الصورة، فكان حَثِّي على حفظها, واستعمال معانيها في الخطب والمكاتبات لهذا السبب.
وقد نثرت في هذا الموضع أبياتًا تكون قدوة للمتعلم, فمن ذلك قولي في فصول الكلام يتضمَّن ذكر السيادة:
"وهو الشريف من شرف نفسه، لا بما دفن مع أبيه في رمسه، فإنَّ تلك مكارم أتت فتجمَّل الزمان بمأتاها، ثم مات أربابها فدفنت مع موتاها، ولو ساد الناس بآبائهم لكانت السيادة للطينة الأولى، ولقد خلق الأبناء من الآباء مجبولًا". وهذا المعنى مأخوذ من قول الشاعر:
وما الفخر بالعظم الرميم وإنما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه
ير أن الفصل الذي ذكرته يتضمَّن من المعنى زيادةً على ما تضمَّنه هذا البيت.
ومن ذلك ما كتبته في فصل من كتاب يتضمن معاتبة أخٍ لإخوته, وتنصله إليهم، فقلت: