وأما أبو الطيب المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام، فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال، وأنا أقول قولًا لست فيه متأثمًَا، ولا منه متلثمًا، وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا, والسلاحين قد تواصلا، فطريقه في ذلك تضل بسالكه، وتقوم بعذر تاركه، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة بن حمدان، فيصف لسانه ما أدّى إليه عيانه".
ولا شكّ في أن ضياء الدين كان صادقًا في كل وصف من تلك الأوصاف، التي آثر بها كل شاعر من أولئك الفحول، ولا يكاد يشك ناقد من النقاد في صحة ما ذكر من نعوت الشعر عند كل واحد منهم، ولكن مجال القول إنما هو في سعة اطلاع ابن الأثير على الشعر العربي قديمه ومحدثه، وإيثاره دواوين أولئك الثلاثة بالحفظ والاستظهار.
ولقد كان اطلاع ابن الأثير على هذا الشعر الكثير، وحفظه ما استطاع من نصوصه سببًا من أهم الأسباب في توسيع مجال دراسته البيانية، وكثرة ما اهتدى إليه من أحكام، أكثرها سديد مصيب, تظهر فيه شخصية الواثق بعلمه، المطمئن إلى حسن رأيه.
وتطالعنا في ثنايا المثل السائر أسماء كثير من الكتب التي قرأها ابن الأثير، وفقه ما فيها، فأعانته على ما تعرض له من دراسة الأدب في فنونه المشهورة, وفي كل جزئية من جزئيات العمل الأدبي.
فأنت تقرأ في هذا الكتاب كلامًا في النحو العربي، وفي علم التصريف, وفي فقه اللغة، فلا يسعك إلا أن تستجيد ما تقرأ، وإلّا أن تعترف بأنك أمام عالم من صفوة العلماء الثقات المختصين في كل فنِّ من تلك الفنون.
وتقرأ كلامًا في التأويل وفي التفسير وفي الحديث النبوي، فيأخذك ما ترى من كثرة الاطلاع وسعة الباع في الفهم والتحصيل، وكأنك أمام عَلَمٍ من أعلام المفسرين والمحدثين.