وبعد أن حصل ضياء الدين هذه الثروة الضخمة من فنِّ المنظوم، اقتصر منها على ما تكثر فوائده، وتتشعّب مقاصده، ويقول عن نفسه:"لم أجد أجمع من ديوان أبي تمام وأبي الطيب للمعاني الدقيقة، ولا أكثر استخراجًا منهما للطيف الأغراض والمقاصد، ولم أجد أحسن تهذيبًا للألفاظ من أبي عبادة، ولا أنقش ديباجة، ولا أبهج سبكًا، فاخترت حينئذ دواوينهم، لاشتمالها على محاسن الطرفين من المعاني والألفاظ، ولما حفظتها ألغيت ما سواها، مع ما بقي على خاطري من غيرها.
ثم يؤكد هذا القول، وبفصل أسباب إيثاره لشعر أولئك الثلاثة الفحول، فيقول: "ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم في اتِّباع من قصر نظره على الشعر القديم؛ إذ المراد من الشعر إنما هو إيداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل. وقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس، وأبي عبادة الوليد، وأبي الطيب المتنبي, وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء:
أما أبو تمام, فإنه رب معان، وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب، الذي برز فيه على الأضراب.
وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك الألفاظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا هو في شظف نجد؛ إذ تشبَّث بريف العراق. وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه، فقال:"أنا وأبو تمام حكيمان, والشاعر البحتري" ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأغرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاطه الغالية، ورقي في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.