وما رأيك في رجل كان يحفظ القرآن، والحديث النبوي، ودواوين الشعراء، ويعرف من اللغة شاردها وواردها, ومن النحو أصوله وفروعه، ومن الصرف دقائقه، ومن الأخبار والأمثال ما يعيا بوعيه المختصون في كل لون من تلك الألوان، وهذه صورة من تلك الجهود المضنية التي بذلها في تكميل نفسه, يقول عن نفسه: وكنت جردت من الأخبار النبوية كتابًا يشتمل على ثلاثة آلاف خبر، كلها تدخل في الاستعمال، وما زلت أواظب على مطالعته مدة تزيد على عشر سنين، فكنت أنهي مطالعته في كل أسبوع مرة، حتى دار على ناظري وخاطري ما يزيد على خمسمائة مرة، وصار محفوظًا لا يشذَّ عني منه شيء.. "ص١٥٠".
ويقول في موضع آخر: واعلم أن المتصدي لحل معاني القرآن يحتاج إلى كثرة الدرس، فإنه كلما ديم على درسه ظهر من معانيه مالم يظهر من قبل، وهذا شيء جرَّبته وخَبَرْتُه، فإني كنت آخذ سورة من السور وأتلوها، وكلما مرَّ بي معنًى أثبته في ورقة مفردة، حتى أنتهي إلى آخرها، ثم آخذ في حل تلك المعاني التي أثبتها واحدًا بعد واحد، ولا أقنع بذلك حتى أعاود تلاوة تلك السورة، وأفعل ما فعلته أولًا، وكلما صقلتها التلاوة مرةً بعد مرةٍ ظهر في كل مرة من المعاني ما لم يظهر في التي قبلها.. "ص١٣٥".
وأما معرفة ابن الأثير بالشعراء وحفظه الشعر فحدّث عنهما ما شئت، ولقد برزت آثار تلك المعرفة وذلك الحفظ واضحة في المثل السائر وغيره من آثار ضياء الدين، يقول في المثل:"إني وقفت على أشعار الشعراء قديمها وحديثها، حتى لم أترك ديوانًا لشاعر مفلق يثبت شعره على المحك إلا وعرضته على نظري", ويقول:"ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع، وأنفدت شطرًا من العمر في المحفوظ منه والمسموع، فألفيته بحرًا لا يوقف على ساحله، وكيف ينتهي إلى إحصاء قول لم تحص أسماء قائله". ثم يقول:"ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير, ولم أقل ما أقول فيه إلّا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرجل، وكشف عن غامضه، وراض فكره برائضه، أطاعته أعنَّة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام".