التقليدين الذين سجلهما ابن الأثير، ووزانهما بتقليديه، إنما يدخلان في باب السلطانيات، ولا علاقة لهما بالرسائل الإخوانية أو بكتب التعازي!
وهذا من أهم مظاهر اضطراب ابن الأثير، في تقدير الصابي بين الغاية والوسيلة، ففي هذا الكلام مدح جاري به المشهور الذي لا ينكره أحد، وذم أشبع به ما في نفسه من الزهو والغرور, فوصف الرجل بأن عقله في كتابته زائد على فصاحته وبلاغته، وزيادة العلم على المنطق هجنة، وزيادة المنطق على العلم خدعة!
وقد يكون ابن الأثير على حقٍّ في كل ما قال، أو في أكثر ما قال مما نقد به أولئك الكُتَّاب من الناحية الفنية، وقد لا يكون كذلك، وإنما الغاية من سوق هذه الشواهد أن ابن الأثير قد عاش في جو الكتابة والكُتَّاب كاتبًا يقرأ كثيرًا، ويتعمَّق فيما يقرأ، ويبحث عن أسباب القوة وأسباب الضعف، ثم يعرض ذلك على ذهنه وبصيرته الفنية الواعية، ثم يكتب ما شاء أن يكتب مجردًا كتابته من أسباب الضعف، ومضيفًا إليها من أسباب القوة ما رآه يزيد في قدره، ويرفع من شأن كتابته، ومحققًا المثل التي تصورها لفن الكتابة.
وكذلك كان ابن الأثير شاعرًا، وإن غلبت صناعة الكتابة على فنه الأدبي، ولذلك كان ما رُوِيَ له من الشعر قليلًا، وإنما ذكرنا ذلك لندلَّ على أن ابن الأثير كان يعبِّر عن تجربته شعرًا، كما عبَّر عنها نثرًا، وأنه فيما كتب في المثل السائر كان يستوحي طبيعته الفنية، قبل أن يتخيل الرسوم والقواعد التي تخيلها من قبله علماء البلاغة والنقد.
وقد أقدم ابن الأثير على صناعة الأدب بعامَّة، وصناعة الكتابة بخاصة، بعد أن زود نفسه بآلاتها، وثقفها بألوان الثقافات التي عددها، وقد أحسَّ بالحاجة إليها كلَّما أوغل فيها، وأحسَّ أن خطورة هذا الفن، وبعد أثره لا تقلّ عن خطورة المناصب الرفيعة التي يتولاها صاحبه في قربه من الحكام، وفي تصريفه لأمور الدولة.