وقد أراد ابن الأثير أن ينفي عن نفسه مظنَّة التحامل على هذين الكاتبين الكبيرين والتعصب عليهما، فيما قدمه من الأمثلة المسجوعة للصابيّ والصاحب ابن عبَّاد، فقد يذهب بعض الناس إلى أن المآخذ فيها يسيرة لأنها جمل قصيرة، قد يقال: إنه التقطها التقاطًا من جملة رسائلهما الطويلة.
وقد حاول أن يخرج نفسه من هذه التهمة، بأنه وجد للصابيّ تقليدًا بنقابة الأشراف العلويين ببغداد، وكان ابن الأثير قد أنشأ تقليدًا بنقابة الأشراف العلويين بالموصل، وقد أورد التقليدين في كتابه١، ليتأملهما الناظر، ويحكم بينهما إن كان عارفًا، أو يسأل عنهما العارف إن كان مقلدًا.
وعلى الرغم من أن كلام ابن الأثير هنا غاية الوضوح؛ إذ أنه يحاول أن يقود القارئ إلى الحكم الذي يريد، وهو الحكم بتفوقه، أو تفوق كتابته على الصابي أو كتابته، فإنه يحاول أن يستر ما أظهر من انتقاصه، ولا يجد سبيلًا إلى ذلك إلّا أن يورد تقليد الصابي أولًا، لأنه كما يقول:"المقدَّم زمانًا وفضلًا! ".
ومعنى ذلك أنه يريد أن يقول: إنه إذا كان قد بَذَّ المقدَّم زمانًا وفضلًا في نظر الناس, فهو أحق بالفضل والتقدمة، وإن تأخَّر به زمانه!
وحين يرى وضوح الغاية من كلامه، يحاول أن يسترها بأنه لم يقصد بما أورد من كتابة الصابي وكتابته الوضع من منزلة الرجل: أو التهوين من خطر فنه.
وقد يكون ذلك حقًّا، وقد يكون الوضع من شأن الصابي في حد ذاته لم يكن هدف ابن الأثير من هذه الكلمات وتلك الموازنات, وإنما كان القصد الحقيقيّ هو إثبات تفوقه عليه، وتمكُّنه من صناعة الكتابة في على درجة لم يستطع أن يصل إليها الصابي، أو غيره من أعلام الكُتَّاب، الذين اعترف لهم الناس بالإجادة والسبق.
ولذلك تراه يعترف بمنزلة الصابي، وبأن علم الكتابة قد رفعه، وأنه إمام هذا الفن، والواحد فيه، وأنه أجاد في السلطانيات كل الإجادة، وأحسن كل الإحسان، ولكنه في الإخوانيات مقصِّر، وكذلك في كتب التعازي، مع أن
١ تقليد الصابي في صفحة ٢٨٧-٢٥٩, وتقليد ابن الأثير في صفحة ٢٩٥-٣٠١.