للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن ذلك ما ذكرته أيضًا في فصل من كتاب، وهو:

"سِرْتُ وتحتي بنت قفرةٍ لا يذهب السرى بجماحها، ولا تستزيد الحادي من مراحها، فهي طموح بأثناء الزمام، وإذا سارت بين الآكام, قيل: هذه واحدة من الآكام، ولم تُسَمَّ "جسرةً١" إلّا لأنها تقطع عرض الفلاة كما يقطع الجسر عرض الماء، ولا سميت "حرفًا٢" إلّا لأنها جاءت لمعنًى في العزائم لا لمعنى في الأفعال والأسماء، وخلفها جنيبٌ من الخيل يقبل بجذعٍ ويدَبِّر بصخره، وينظر من عين جحظة, ويسمع بأذن حشرة، ويجري مع الريح الزعزع, فيذرها وقد ظهر أثر القترة، وما قيد خلفها إلّا وهو يهتدي بها في المسالك المضلة، ويطأ على أثرها فيرقم وجوه البدور بأشكال الأهلة، هذا والليل قد ألقى جرانه٣ فلم يبرح، والكواكب قد ركدت فيه فلم تسبح، وأنا أودّ لو زاد طوله، ولم تظهر غرَّة أدهمه ولا حجوله، فقد قيل: إنه أدنى للبعد وأكتم للأسرار، ودل عليه القول النبوي بأن الأرض تطوى فيه ما لا تطوى في النهار، وما زلت أسير بريدها تنوء به حتى كاد ينضو لَوْن السواد، وظهر لون السرحان, فأغار على سرح السماء كما يغير على السرحان على سرح النقاد٤، فعند ذلك نهلت العين من الكرى نهلة الطائر، ولم يكن ذلك على ظهر الأرض المطمئنة, وإنما كان على الظهر السائر".

في هذا الفصل كل مليحة من المعاني، ولو لم يكن في هذا الكتاب سواه لكان كافيًا، وبعضه مأخوذ من الشعر، كقول أبي تمام:

طموحٌ بأثناء الزِّمَام كأنَّمَا ... يخال بها من عَدْوِها طيف جنة٥

وكقوله:

بالشذقميات العتاق كأنَّمَا ... أشباحها بين الإكام إكام٦


١ الجسرة: العظيم من الإبل.
٢ الحرف: الناقة العظيمة.
٣ جران البعير: مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره.
٤ النقاد جمع نقد: جنس من الغنم قبيح الشكل.
٥ ديوان أبي تمام ٦٠, والناقة الطموح التي ترفع يديها في السير.
٦ ديوان أبي تمام ٢٨، والشذقميات يراد بها: النوق الكرام، والإكام: التلال.

<<  <  ج: ص:  >  >>