ومقدمة ابن أفلح البغدادي التي ذكر ابن الأثير أنه قصرها على تفصيل أقسام علم الفصاحة والبلاغة.
بهذه الثقافة بل بتلك الثقافات التي حصلها، والعقول التي سبر أغوارها، اقتحم ابن الأثير ميدان البحث البلاغي، فكان كتابه مجموعة من الأفكار المأثورة عن أولئك العلماء الأعلام مزجها بأفكاره، وبدت شخصيته واضحة مستقلة بين سمات تلك الشخصيات، ولم يكتف بأن يكون جامعًا أو ناقلًا، بل أراد أن يكون مؤلفًا في البلاغة، ورائدًا من روَّاد علم البيان، بما أضاف وصحَّحَ، وعاب ونقد.
ومن هنا كان المثل السائر لونًا متميزًا من ألوان التأليف في البيان العربي، واستطاع على الرغم من كثرة الآثار فيه، ووفرة الدراسات المتباينة في هذا الكتاب أن يكون مرجعًا من مراجع البلاغة العربية، ولا يستغني عنه باحث من الباحثين فيها.
وقد تأثَّر ابن الأثير في تلك الدراسة الخصبة التي نجدها في المثل السائر بعاملين مهمين؛ هما: العصر الذي عاش فيه، والفن الذي اشتغل به، ووصل به ما كان يشتهي من المنصب والجاه.
١- فقد وصل ابن الأثير إلى قمة مجده, وذروة نضجه, أخريات القرن السادس الهجري وشطرًا كبيرًا من القرن السابع، فجاء بعد ازدهار البحوث البيانية ونضجها، واختلاف مناهج البحث، وتعدد الآراء في البيان، من رأى ينادي بتحكيم الذوق، إلى آخر يدعو إلى التقليد في النظر إلى الأدب, والحكم عليه إلى رأي ينادي بالموضوعية والمنهج العلمي، ويعنى بالتعريف والتنظيم وحصر الأقسام، إلى ذلك الأسلوب النقدي التحليلي النفسي الذي نراه في كتابي عبد القاهر: دلائل الإعجاز, وأسرار البلاغة، وما تميزا به من فكرة النظم التي تبناها عبد القاهر، وأرسى قواعدها في النقد والنظر إلى البيان, وما نادى به من النظرة الكلية للأدب والانتصار للمعنى.
بل رأينا ما هو أكثر من ذلك: رأينا الصورة النهائية للبلاغة العربية قد تَمَّ وضعها