وإنما حسنت هذه اللفظة في الآية دون البيت من الشعر؛ لأنها جاءت في الآية مندرجة في ضمن الكلام، ولم ينقطع الكلام عندها، وجاءت في الشعر قافية، أي: آخرًا انقطع الكلام عندها.
وإذا نظرنا إلى حكمة أسرار الفصاحة في القرآن الكريم غُصْنَا منه في بحر عميق لا قرار له.
فمن ذلك هذه الآية المشار إليها، فإنها قد تضمَّنت خمسة ألفاظ، وهي: الطوفان، والجراد، والقمَّل، والضفادع، والدم، وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هي الطوفان والجراد والدم، فلمَّا وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها قُدِّمَ منها لفظتا "الطوفان" و"الجراد"، وأُخِّرَت لفظة "الدم" آخرًا، وجعلت لفظة "القمل والضفادع" في الوسط، ليطرق السمع أولًا الحسن من الألفاظ الخمسة, وينتهي إليه آخرًا، ثم إن لفظة "الدم" أحسن من لفظتي "الطوفان" و"الجراد"، وأخف في الاستعمال، ومن أجل ذلك جيء بها آخرًا، ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية.
وقد ذكر من تقدَّمَني من علماء البيان للألفاظ المفردة خصائص وهيآت تتصف بها، واختلفوا في ذلك، واستحسن أحدهم شيئًا فخُولف فيه، وكذلك استقبح الآخر شيئًا فخولف فيه.
ولو حققوا النظر ووقفوا على السرِّ في اتصاف بعض الألفاظ بالحسن وبعضها بالقبح لما كان بينهم خلاف في شيء منها.
وقد أشرت إلى ذلك في الفصل الثامن١ من مقدمة كتابي هذا الذي يشتمل على ذكر الفصاحة، وفي الوقوف عليه والإحاطة به غنىً عن غيره، لكن لا بُدَّ أن نذكر ههنا تفصيلًا لما أجملناه هناك، لأنا ذكرنا في ذلك الفصل أن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات؛ لأنها مركَّبة من مخارج الحروف، فما استلذه السمع منها فهو الحسن، وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح.