نحكم على الكثير الغالب، وكذلك إذا رأينا شخصًا يحبَّ أكل الفحم مثلًا, أو أكل الجص والتراب, ويختار ذلك على ملاذ الأطعمة، فهل نستجيد هذه الشهوة, أو نحكم عليه بأنه مريض قد فسدت معدته, وهو محتاج إلى علاج ومداواة؟
ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار، وصوتًا منكرًا كصوت حمار، وأن لها في الفم أيضًا حلاوة كحلاوة العسل، ومرارة كمرارة الحنظل، وهي على ذلك تجري مجرى النغمات والطعوم.
ولا يسبق وهمك أيها المتأمل إلى قول القائل الذي غلب عليه غلظ الطبع، وفجاجة الذهن, بأن العرب كانت تستعمل من الألفاظ كذا وكذا، فهذا دليل على أنه حسن، بل ينبغي أن تعلم أن الذي نستحسنه نحن في زماننا هذا, هو الذي كان عند العرب مستحسنًا، والذي نستقبحه هو الذي كان عندهم مستقبحًا.
والاستعمال ليس بدليل على الحسن، فإنَّا نحن نستعمل الآن من الكلام ما ليس بحسن، وإنما نستعمله لضرورة، فليس استعمال الحسن بممكن في كل الأحوال، وهذا طريق يضل فيه غير العارف بمسالكه، ومن لم يعرف صناعة النظم والنثر وما يجده صاحبها من الكلمة في صوغ الألفاظ واختيارها, فإنه معذور في أن يقول ما قال:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصَّبَابة إلا من يعانيها
ومع هذا, فإن قول القائل بأن العرب كانت تستعمل من الألفاظ كذا وكذا, وهذا دليل على أنه حسن" قولٌ فاسد لا يصدر إلا عن جاهل، فإن استحسان الألفاظ واستقباحها لا يؤخذ بالتقليد من العرب، لأنه شيء ليس للتقليد فيه مجال، وإنما هو شيء له خصائص وهيآت وعلامات, إذا وجدت علم حسنه من قبحه، وقد تقدَّم الكلام على ذلك في باب الفصاحة والبلاغة.
وأما الذي تقلّد العرب فيه من الألفاظ فإنما هو الاستشهاد بأشعارها على ما ينقل من لغتها، والأخذ بأقوالها في الأوضاع النحوية في رفع الفاعل, ونصب المفعول, وجر المضاف إليه, وجزم الشرط, وأشباه ذلك، وما عداه فلا.