والثالثة: وصل تلك الآراء التي اشتمل عليها المثل السائر بغيرها من الآراء التي توافقها أو تخالفها. والغاية من ذلك الوقوف على أصالة مباحث هذا الكتاب ومداها فيما عرضت له من الدراسات، وكذلك معرفة حظ ابن الأثير من تلك الأصالة.
وهذه الغاية الأخيرة وحدها جديرة بأن يفرد لها بحث، بل بحوث مستقلة، ولذلك اكتفينا بالإشارة في هامش هذه الطبعة إلى الآراء التي توارد عليها ابن الأثير وغيره من الذين بحثوا في مثل ما بحث، والآراء التي نقلها عن غيره ناسبًا إياها إلى صاحبها الأصلي، أو التي ادعاها لنفسه، مما وجدنا ثمرة الإفادة منه واضحة، وأثر الاقتفاء بارزًا. ولم يخرج ذلك عن طبيعة ما وضع الهامش من أجله, بما لا يخرج عن حد الإشارة أو اللمحة الدالة.
أما ضروب الأصالة, ومنابع العقلية التي استقى منها هذا الكتاب، فإنا ذاكروها في هذه المقدمة، بما لا يخرج أيضًا عن طبيعة المقدمات.
وإذا كان لكل مؤلف في فن من فنون التأليف لون خاصٌّ من ألوان المعرفة يمتاز به عما سواه، وناحية يظهر تفوقه فيها، ويظهر تقصيره في غيرها، فإن ابن الأثير قد حلَّق في آفاق كثيرة من آفاق المعرفة، تجد صداها واضحًا في هذا السفر النفيس.
فأنت ترى فيه الكثير من الإشارات التاريخية التي لا يعرفها إلا الواقفون على أحداث الزمان، والعارفون بتقلباته وسير أبطاله وأعلامه.
وتقرأ فيه آثار معرفة واسعة بعلوم العربية لا يعرفها إلا المختصون بدراسة أصولها، والمتبحرون في فقه لغتها، والعاكفون على معرفة نحوها وصرفها، وأساليب التعبير بها.
وتطالع في المثل السائر آثار معرفة بكتاب الله، وحفظ لآياته، وقدرة عجيبة على استحضارها، والتمثل بها في كل موضع يريد أن يتمثل فيه بما يوافق آراءه في وسائل الإجادة، وأسباب الإتقان. وتجد فيه كثيرًا من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وفقه سنته، والوقوف على سيرته وأخبار صحابته.
كل ذلك إلى جانب ما وشيت به صفحات المثل السائر من حكم العرب وأمثالها، ومن مأثور منظومها، وجيد منثورها، مما يروقك الاطلاع عليه, ويأخذ بلبك ما ترى من القدرة على استحضارها، وإجادة التمثل به.
بهذه الألوان الكثيرة من المعرفة، وبهذه الثقافات المتنوعة كمَّل ابن الأثير لنفسه، حتى يحسن إعداد نفسه لما عرض له من علاج الأدب الذي كانوا يعرفون أنه الأخذ من كل فن بطرف.