للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التعاظل في الكلام هو أن يدخل بعض الكلام فيما ليس من جنسه، ولا أعرف ذلك إلا فاحش الاستعارة١، كقول أوس بن حجر:

وذات هدمٍ عارٍ نواشرها ... تُصْمِتُ بالماء تولبًا جَدِعَا٢

فسمَّى الظبي "تولبًا"، والتولب: ولد الحمار.

هذا ما ذكره قدامة بن جعفر، وهو خطأ؛ إذ لو كان ما ذهب إليه صوابًا لكانت حقيقة المعاظلة دخول الكلام فيما ليس من جنسه، وليست حقيقتها هذه، بل حقيقتها ما تقدَّم وهو التراكب، من قولهم: تعاظلت الجرادتان، إذا ركبت إحداهما الأخرى.

وهذا المثال -الذي مثَّل به قدامة- لا تراكب في ألفاظه ولا في معانيه.

وأما غير قدامة فإنه خالفه فيما ذهب إليه، إلّا أنه لم يقسِّم المعاظلة إلى لفظية ومعنوية، ولكنه ضرب لها مثالًا كقول الفرزدق:

وما مثله في الناس إلّا مملكًا ... أبو أمه حيٌ أبوه يقاربه٣

وهذا من القسم المعنوي، لا من القسم اللفظيّ، ألا ترى إلى تراكب معانيه بتقديم ما كان يجب تأخيره, وتأخير ما كان يجب تقديمه؛ لأن الأصل في معناه: "وما مثله في الناس حي يقاربه إلّا مملكًا أبو أمه أبوه"؟ وسيجيء شرح ذلك مستوفًى في بابه من المقالة الثانية، إن شاء الله تعالى.

وإذا حقَّقْت القول في بيان المعاظلة، والكشف عن حقيقتها, فإني أتبع ذلك بتقسيم


١ جعل قدامة "المعاظلة" من عيوب اللفظ، قال: وهي التي وصف عمر بن الخطاب زهيرًا بمجانبته لها أيضًا، فقال: وكان لا يعاظل بين الكلام، وسألت أحمد بن يحيى عن "المعاظلة" فقال: مداخلة الشيء في الشيء، يقال: تعاظلت الجرادتان، وعاظل الرجل المرأة، إذا ركب أحدهما الآخر، وإذا كان الأمر كذلك فمحال أن ينكر مداخلة بعض الكلام فيما يشبهه, أو فيما كان من جنسه، وبقي النكير إنما هو في أن يدخل بعضه فيما ليس من جنسه، وما هو غير لائق به، وما أعرف ذلك إلّا فاحش الاستعارة.. [انظر نقد الشعر ١٠٣-طبعة بريل، ليدن] ، وانظر "قدامة بن جعفر والنقد الأدبي ٢٠٤-٢١٥ من الطبعة الثانية".
٢ الهدم: الثوب البالي أو المرقَّع، والنواشر: جمع ناشرة، وهي عصب في الذراع، تصمَّت: تسكت ولدها، والجدع: السيئ الغذاء. والبيت من قصيدة لأوس في رثاء فضالة بن كلدة ومطلعها:
أيتها النفس أجملي جزعًا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
٣ ديوان الفرزدق ١/ ١٠٨ في مدح إبراهيم بن هشام المخزوميّ خال هشام بن عبد الملك.

<<  <  ج: ص:  >  >>