للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القسم اللفظيّ منها الذي أنا بصدد ذكره ههنا فأقول: إني تأمَّلت بالاستقراء من الأشعار قديمها ومحدثها، ومن النظر في حقيقتها نفسها، فوجدتها تنقسم إلى خمسة أقسام:

الأول منها: [ما يختص بالأدوات]

يختص بأدوات الكلام نحو: من، وإلى، وعن، وعلى، وأشباهها، فإن منها ما يسهل النطق به إذا ورد مع أخواته, ومنها ما لا يسهل، بل يرد ثقيلًا على اللسان، ولكلِّ موضع يخصه من السبك.

فمما جاء منه قول أبي تمام:

إلى خالدٍ راحت بنا أرحبيَّةٌ ... مرافقها مِنْ عَنْ كراكرها نكب١

فقوله: "مِنْ عَنْ كراكرها" من الكلام المتعاظل الذي يثقل النطق به.

على أنه قد وردت هاتان اللفظتان، وهما "من" و"عن"، في موضع آخر، فلم يثقل النطق بهما، كقول القائل: "مِنْ عَنْ يمين الطريق"، والسبب في ذلك أنهما وردتا في بيت أبي تمام مضافتين إلى لفظة "الكراكر"، فثقلت منهما، وجعلتهما مكروهتين كما ترى، وإلّا فقد وردتا في شعر قطري بن الفجاءة٢ فكانتا خفيفتين، كقوله:

ولقد أراني للرماح دريئةً ... من عن يميني مرةً وأمامي٣

والأصل في ذلك راجع إلى السبك، فإذا سبكت هاتان اللفظتان أو ما يجري مجراهما مع ألفاظ تسهل منهما, لم يكن بهما من ثِقَل، كما جاءتا في بيت قطريّ، وإذا سبكتا مع ألفاظ تثقل منهما جاءتا كما جاءتا في بيت أبي تمام.


١ ديوان أبي تمام ٣٠ من قصيدة في مدح خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، ومطلعها:
لقد أخذت من دار ماوية الحقب ... أنحل المغاني للبلى هي أم نهب
والأرحبيّة: ناقة منسوبة إلى أرحب، وهو فحل كريم، كراكرها -جمع كركرة: رحى صدرها وخواصرها، نكب -جمع نكباء: مائلة.
٢ هو قطريّ بن الفجاءة المازنيّ، من زعماء الخوارج الشعراء والخطباء، قضى مدة طويلة في حروب مع الأمويين، حتى قتل بطبرستان سنة ٧٩هـ.
٣ الدريئة: الحلقة يتعلم الطعن والرمي عليها، والبيت من قصيدة مطلعها:
لا يركننَّ أحد إلى الإحجام ... يوم الوغى متخوفًا لحمام

<<  <  ج: ص:  >  >>