للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك أنه لو قال: "أخذنا في أحاديثنا"، أو نحو ذلك، لكان فيه ما يكبره أهل النسيب، فإنه قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الإلفين، والجذل بجمع شمل المتواصلين، ألا ترى إلى قول بعضهم:

وحديثها يا سعد عنها فزدتني ... جنونًا فزدني من حديثك يا سعد

وقول الآخر:

وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز١

فإذا كان قدر الحديث عندهم "مرسلا"٢ على ما ترى، فكيف به إذا قيدوه بقوله: "أخذنا بأطراف الأحاديث"؟ فإن ذلك وحيًا خفيا، ورمزًا حلوًا، ألا ترى أنه قد يريد بأطرافها، ما يتعاطاه المحبون، ويتفاوضه ذوو الصبابة من التعريض والتلويح، والإيماء دون التصريح؟ وذلك أحلى وأطيب، وأغزل وأنسب، من أن يكون كشفًا، ومصارحة وجهرًا.

وإن كان الأمر كذلك، فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم، وأشد تقدمًا في نفوسهم من لفظهما، وإن عذب ولذ مستمعه.

نعم في قول الشاعر:

وسالت بأعناق المطي الأباطح

من لطافة المعنى وحسنه ما لا خفاء به.

وسأنبه على ذلك، فأقول إن هؤلاء القوم لما تحدثوا، وهم سائرون على المطايا شغلتهم لذة الحديث عن إمساك الأزمة، فاسترخت عن أيديهم، وكذلك شأن من يشره، وتغلبه الشهوة في أمر من الأمور، ولما كان الأمر كذلك، وارتخت الأزمة عن


١ هذا البيت والذي قبله في الخصائص ١/ ٧٢٢.
٢ زيادة عن الخصائص ١/ ٢٢٨، والكلام منقول عن ابن جني كما قدمنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>