للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالجواب عن ذلك أنا نقول١: هذا الموضع قد سبق إلى التشبث به من لم ينعم النظر فيه، ولا أرى ما رآه القوم، وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وعدم معرفته وهو أن في قول هذا الشاعر: "كل حاجة" مما يستفيد منه أهل النسيب والرقة "وذوو"٢ والأهواء، والمقة ما لا يستفيد غيرهم، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم.

ألا ترى أن حوائج منىً أشياء كثيرة؟ فمنها التلاقي، ومنها التشاكي، ومنها التخلي للاجتماع، إلى غير ذلك مما هو تالٍ له ومعقود الكون به، فكأن الشاعر صانع عن هذا الموضع الذي أومأ له، وعقد غرضه عليه، بقوله في آخر البيت: "ومسح بالأركان من هو ماسح" أي: إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا٣ التي بلغناها من هذا النحو الذي هو مسح الأركان، وما هو لاحق به، وجارٍ في القرية من الله مجراه: أي لم نتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح.

وأما البيت الثاني: فإن فيه "أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا"، وفي هذا ما تذكره لتعجب به، وبمن عجب منه، ووضع من معناه!


= وتمثل بهذه الأبيات قدامة بن جعفر في نعت اللفظ بأن يكون سمحا سهل مخارج الحروف من مواضعها: عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة، مثل أشعار يوجد فيها ذلك، وأن خلت من سائر النعوت للشعر "نقد الشعر١٢".
وقال أبو هلال العسكري: إن الكلام الذي إذا كان لفظه حلوا عذبا وسلسا سهلا، ومعناه وسطا، دخل في جملة الجيد، وجرى مع الرائع النادر، وذكر الأبيات الثلاثة، ثم عقب عليها بمثل تعقيب بن قتيبة "انظر الصناعتين ٥٩".
١ قد يعتقد القارئ أن هذا الجواب من ثمار فطنة بن الأثير، واستواء ملكته النقدية، ولكن الحقيقة أنه سطا عليه، ونقله بمعانيه وأكثر حروفه من غير أن يرجعه إلى صاحبه، وكثيرا ما رأينا منه مثل ذلك، وهذا الجواب هو من تأليف أبي الفتح عثمان بن جني صاحب "الخصائص"، الذي بسط القول فيه على هذا النحو "انظر الخصائص ١/ ٢٢٥"، وقد أخذ رأي ابن جني أيضا عبد القاهر الجرجاني، وجعله دفاعا عن الشعر عند من استقل معناه "انظر أسرار البلاغة ١٥-١٨".
٢ زيادة عن الخصائص.
٣ في الخصائص "وآدابنا".

<<  <  ج: ص:  >  >>