للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في النفس، وأذهب بها في الدلالة على القصد.

ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعًا لذ لسامعه فحفظه، وإذا لم يكن مسجوعًا لم يأنس به أنسه في حالة السجع؟

فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم، وحسنوها ورققوا حواشيها، وصقلوا أطرافها، فلا تظن أن العناية إذا ذاك إنما هي بألفاظ فقط، بل هي خدمة منهم للمعاني، ونظير ذلك إبراز صورة الحسناء في الحلل الموشية والأثواب المحبرة، فإنا قد نجد من المعاني الفاخرة ما يشوه من حسنة بذاذة لفظه، وسوء العبارة عنه.

فإن قيل: إنا نرى من ألفاظ العرب ما قد حسنوه وزخرفوه، ولسنا نرى تحته مع ذلك معنى شريفًا، فمما جاء منه قول بعضهم١:

ولما قضينا من منىً كل حاجةٍ ... ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح

ألا ترى إلى حسن هذا اللفظ وصقالته، وتدبيج أجزائه؟ ومعناه مع ذلك ليس مدانيًا له ولا مقاربًا، فإنه إنما هو: لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل، ولهذا نظائر شريفة الألفاظ خسيسة المعاني٢؟


١ هذا الشعر ينسب إلى كثير عزة، وإلى يزيد بن الطثرية؛ ونسبها الشريف المرتضى في أماليه للمضرب، وهو عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى "٢/ ١١٠"، وبين هذين البيتين بيت هو:
وشدت على حدب المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
وفي بعض الروايات "دهم المهارى" والمهارة جمع مهرية، وهي الإبل المنسوبة إلى قبيلة "مهرة بن حيدن".
٢ صاحب هذا النقد هو ابن قتيبة "٢٧٦هـ"، فإنه جعل الشعر أربعة أضرب ثانيها ضرب حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وتمثل بالأبيات الثلاثة المذكورة، ثم عقب عليها بقوله: هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيء مخارج ومطالع، إن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، أبتدأنا في الحديث، وسارت المطي في الأبطح، وهذا في الشعر كثير "الشعر "الشعر والشعراء ١/ ١١".

<<  <  ج: ص:  >  >>