للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا، وهو بحر لا ساحل له، يحتاج صاحبه إلى تحصيل علوم كثيرة حتى ينتهي إليه، ويحتوي عليه، فسبحان الله! هل يدعي هؤلاء أنه فقيه، أو طبيب أو حاسب أو غير ذلك من غير أن يحصل آلات ذلك، ويتقن معرفتها?

فإذا كان العلم الواحد من هذه العلوم الذي يمكن تحصيله في سنة، أو سنتين من الزمان، لا يدعيه أحد من هؤلاء، فكيف يجيء إلى فن الكتاب، وهو ما لا تحصل معرفته إلا في سنين كثيرة، فيدعيه وهو جاهل به?

ومما رأيته من المدعين لهذا الفن الذين حصلوا منه على القشور، وقصروا معرفتهم على الألفاظ المسجوعة الغثة التي لا حاصل وراءها، أنهم إذا أنكرت هذه الحال عليهم، وقيل لهم: إن الكلام المسجوع ليس عبارة عن تواطؤ الفقر على حرف واحد فقط، إذ لو كان عبارة عن هذا وحده لأمكن أكثر الناس أن يأتوا به من غير كلفة، وإنما هو أمر وراء هذا، وله شروط متعددة، فإذا سمعوا ذلك أنكروه، لخلوهم عن معرفته، ثم لو عرفوه وأتوا به على الوجه الحسن من اختيار الألفاظ المسجوعة لاحتاجوا إلى شرط آخر، قد نبهت عليه في باب "السجع".

وإذا أنكر عليهم الاقتصار على الألفاظ المسجوعة، وهدوا إلى طريق المعاني يقولون: لنا أسوة بالعرب الذين هم أرباب الفصاحة، فإنهم إنما اعتنوا بالألفاظ ولم يعتنوا بالمعاني اعتناءكم بها!!

فلم يكفهم جهلهم فيما ارتكبوه، حتى ادعوا الأسوة بالعرب فيه، فصارت جهالتهم جهالتين.

ولنذكر ههنا في الرد عليهم ما إذا تأمله الناظر في كتابنا عرف منه ما يؤنقه، ويذهب به الاستحسان كل مذهب، فنقول:

اعلم أن العرب كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها، وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأشرف قدرًا في نفوسها، فأول ذلك عنايتها بألفاظها؛ لأنها لما كانت عنوان معانيها، وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها وزينوها، وبالغوا في

<<  <  ج: ص:  >  >>