للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو قال١: إن المحدثين أكثر ابتداعًا للمعاني، وألطف مأخذًا وأدق نظرًا، لكان قوله صوابًا؛ لأن المحدثين عظم الملك الإسلامي في زمانهم، ورأوا ما لم يره المتقدمون، وقد قيل: إن اللها تفتح اللها٢، وهو كذلك فإن نفاق السوق جلاب.

وقد رأيت جماعة من متخلفي هذه الصناعة يجعلون همهم مقصورا على الألفاظ التي لا حاصل وراءها، ولا كبير معنى تحتها، وإذا أتى أحده بلفظ مسجوع على أي وجه كان من الغثاثة، والبرد يعتقد أنه قد أتى بأمر عظيم، ولا يشك في أنه صار كاتبًا مفلقًا.

إذا نظر إلى كتاب زماننا وجدوا كذلك، فقاتل الله القلم الذي يمشي في أيدي الجهال الأغمار، ولا يعلم أنه كجواد يمشي تحت حمار.

ولو أنه لا يتطاول إليه إلا أهله لبان الفاضل من الناقص، على أنه كالرمح الذي إذا اعتقله حامله بين الصفين بان به المقدم من الناكص، وقد أصبح اليوم في يد قومٍ هم أحوج من صبيان الكاتب إلى التعليم، وقد قيل: إن الجهل بالجهل داء لا ينتهي إليه سقم السقيم.

وهؤلاء لا ذنب لهم؛ لأنهم لو لم يستخدموا في الدول ويستكتبوا، وإلا ما ظهرت جهالتهم، وفي أمثال العوام: لا تعر الأحمق شيئًا فيظنه له، وكذلك يجري الأمر مع هؤلاء، فإنهم استكتبوا في الدول، فظنوا أن الكتابة قد صارت لهم بأمر حق واجب.

ومن أعجب الأشياء أني لا أرى إلا طعامًا في هذا الفن، مدعيًا له على خلوه عن تحصيل آلاته وأسبابه، ولا أرى أحدًا يطمع في فن من الفنون غيره، ولا يدعيه!


١ الضمير عائد على ابن أفلح، والكلام في مقدمته.
٢ اللها بالضم جمع لهوة بالضم العطية دراهم كانت أو غيرها، واللها بالفتح واللهوات، واللهيات أيضا جمع لهاة بالفتح، وهي الهنة المطبقة في أقصى سقف الفم.

<<  <  ج: ص:  >  >>