للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يا خير مَنْ كان ومن يكون ... إلا النبيُّ الطاهر الميمون١

فرفع في الاستثناء من الموجب، وهذا من ظواهر النحو, وليس من خافيه في شيء.

وكذلك قال أبو الطيب المتنبي٢:

أرأيت هِمَّةَ ناقتي في ناقةٍ ... نقلت يدًا سُرُحًا وخفًّا مجمَرَا٣

تركت دُخَان الرمث في أوطانها ... طلبًا لقومٍ يوقدون العنبرا٤

وتكرَّمت ركباتها عن مبركٍ ... تقعان فيه وليس مسكًا أذْفَرَا٥

فجمع في حال التثنية، لأن الناقة ليس لها إلا ركبتان، فقال: ركبات، وهذا من أظهر ظواهر النحو وقد خفي على مثل المتنبي.

ومع هذا فينبغي لك أن تعلم أن الجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة ولا بلاغة، ولكنه يقدح في الجاهل به نفسه؛ لأنه رسوم قوم تواضعوا عليه، وهم الناطقون باللغة، فوجب اتباعهم.

والدليل على ذلك أن الشاعر لم ينظم شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول, أو ما جرى مجراهما، وإنما غرضه إيراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن المتَّصفين بصفة الفصاحة والبلاغة، ولهذا لم يكن اللحن قادحًا في حسن الكلام، لأنه إذا قيل: "جاء زيد راكب"، إن لم يكن حسنًا إلّا بأن يقال: "جاء راكبًا"، بالنصب لكان النحو شرطًا في حسن الكلام، وليس كذلك.

فتبين بهذا أنه ليس الغرض من نظم الشعر إقامة إعراب كلماته، وإنما الغرض أمر وراء ذلك، وهكذا يجري الحكم في الخطب والرسائل من الكلام المنثور.

وأما الإدغام فلا حاجة إليه لكاتب، لكنَّ الشاعر ربما احتاج إليه؛ لأنه قد يضطر في بعض الأحوال إلى إدغام حرف، وإلى فك إدغام، من أجل إقامة الميزان الشعري.


١ ديوان أبي نواس ص١١٧، وقد أبقينا لفظ "النبي" مرفوعًا لأن مبنى النقد على ذلك، ويمكن أن يكون منصوبًا ولا خطأ فيه، ويرفع ما بعده على أنه نعت مقطوع.
٢ من قصيدة يمدح بها أبا الفضل محمد بن العميد، ومطلعها:
باد هواك صبرت أم لم تصيرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
٣ الديوان: ٢/ ١٦٨ والسرح: السهلة السير، والخف المجمر: الشديد الصلب، أو هو الخفيف السريع من قولهم: "أجمرت الناقة" إذا أسرعت. يخبر عن علوِّ همته؛ لأنه يحمل ناقته على السير.
٤ الرمث: نبت يوقد به، وهو من مراعي الإبل، يقول: تركت الأعراب ووقودهم هذا الرمث، وأتيت قومًا وقودهم من العنبر.
٥ ركباتها: جمع ركبة، وإنما عني الاثنين، وهو كقوله -جل وعلا: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وذلك أن أقل الجمع اثنان، فجاز أن يعبر عنهما بالجمع، ودلَّ على أنه أراد التثنية أنه أخبر عنهما بالتثنية فقال: "تقعان"، والأذفر: الشديد الرائحة. يقول: تكرمت ناقتي عن البروك إلّا على المسك الأذفر، لأن العنبر يوقد بحضرة الممدوح، والمسك ممتهن عنده، بحيث تبرك عليه ناقتي.

<<  <  ج: ص:  >  >>