للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الليل من النهار بانسلاخ الجلد المسلوخ، وذاك أنه لما كانت هوادي الصبح عند طلوعه ملتحمةً بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ، وكان ذلك أولى من أن لو قيل: "يخرج"؛ لأن السلخ أدل على الالتحام من الإخراج، وهذا تشبيه في غاية المناسبة.

وكذلك ورد قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} ١، فشبه انتشار الشيب باشتعال النار، ولما كان الشيب يأخذ في الرأس، ويسعى فيه شيئًا فشيئًا، حتى يحيله إلى غير لونه الأول بمنزلة النار التي تشتعل في الجسم، وتسري فيه، حتى تحيله إلى غير حاله الأولى.

وأحسن من هذا أن يقال: إنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار: في سرعة التهابه، وتعذر تلافيه، وفي عظم الألم في القلب به، وأنه لم يبق بعده إلا الخمود.

فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبه والمشبه به، وذلك في الغاية القصوى من التناسب والتلاؤم.

وقد ورد من الأمثال "الليل جنة الهارب"، وهذا تشبيه حسن.

وكل ذلك من التشبيه المضمر الأداة.

ومما ورد منه شعرًا قول أبي الطيب المتنبي٢:

وإذا اهتز للندى كان بحرًا ... وإذا اهتز للوغى كان نصلًا

وإذا الأرض أظلمت كان شمسًا ... وإذا الأرض أمحلت كان وبلا

فحرف التشبيه ههنا مضمر، وتقديره: كان كأنه بحر، وكان كأنه نصل،


١ سورة مريم: الآية ٤ وهذه الآية أيضا من قبيل الاستعارة قال أبو هلال: قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} حقيقته كثر الشيب في الرأس وظهر، والاستعارة أبلغ، لفضل ضياء النار على ضياء الشيب، فهو إخراج الظاهر إلى ما هو أظهر منه؛ ولأنه لا يتلاقى انتشاره في الرأس، كما لا يتلافى اشتعال النار "الصناعتين ٢٧٢".
٢ ديوان المتنبي ٣-١٣٢ من قصيدة يعزي فيها سيف الدولة بأخته الصغرى. ومطلعها:
إن يكن صبر ذي الرزية فضلا ... فكن الأفضل الأعز الأجلا

<<  <  ج: ص:  >  >>