للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك ورد قول ابن الرومي١:

أدرك ثقاتك إنهم وقعوا ... في نرجس معه ابنة العنب

فهم بحالٍ لو بصرت بها ... سبحت من عجبٍ ومن عجب

ريحانهم ذهبٌ على دررٍ ... وشرابهم دررٌ على ذهب

وهذا تشبيه صنيع، إلا أن تشبيه البحتري أصنع، وذلك أن هذا التشبيه صدر عن صورة مشاهدة، وذاك إنما استنبطه استنباطًا من خاطره.

وإذا شئت أن تفرق بين صناعة التشبيه، فانظر إلى ما أشرت إليه ههنا: فإن كان أحد التشبيهين عن صورة مشاهدة، والآخر عن صورة غير مشاهدة، فاعلم أن الذي هو عن صورة غير مشاهدة أصنع.

ولعمري إن التشبيهين كليهما لا بد فيهما من صورة تحكي، لكن أحدهما: شوهدت الصورة فيه فحكيت، والآخر استنبطت له صورة لم تشاهد في تلك الحال، وإنما الفكر استنبطها.

ألا ترى أن ابن الرومي نظر إلى النرجس وإلى الخمر فشبه، وأما البحتري فإنه مدح قومًا بأن خلق السماح باقٍ فيهم ينتقل عن الأول إلى الآخر، ثم استنبط لذلك تشبيهًا، فأداه فكره إلى السيف وقربه التي تفنى في كل حين، وهو باق لا يفنى بفنائها، ومن أجل ذلك كان البحتري أصنع.

وسأورد ههنا من كلامي نبذة يسيرة.

فمن ذلك ما كتبته من جملة كتاب إلى ديوان الخلافة أذكر فيه نزول العدو الكافر على ثغر عكا٢ في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فقلت:


١ ديوان ابن الرومي ١٧٦ من قصيدة له في علي بن عبد الله، وأول ما في الديوان منها:
يا ابن المسيب عشت في نعم ... وسلمت من هلك ومن عطب
٢ بلد على ساحل بحر الشام كانت قديما في غاية الحصانة، وقد اختلفت أيدي المتغلبين عليها، وصارت بيد الفرنج، واستنقذها منهم صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم استعادها الفرنج بعد ذلك، وفي سنة تسعين وستمائة، فتحها الملك الأشرف بن الملك المنصور قلاوون، ونقض بيوتها وأبراجها، وقتل من بها من الفرنج، وكان ذلك من فتوح المسلمين العظيمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>