للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"وأحاط بها العدو إحاطة الشفاه بالثغور، ونزل عليها نزول الظلماء على النور".

وهذا من التشبيهات المناسبة.

ثم لما جئت إلى ذكر قتال المسلمين إياه، وإزالته عن جانب الثغر قلت:

"وقد اصطدم من الإسلام والكفر ابنا شمام١، والتقى من عجاجتهما ظلام، وعند ذلك أخذ العدو في التحيز إلى جانب، وكان كحاجب على عين، فصار كعين في حاجب، وإذا تزعزع البناء فقد هوى، وإذا قبض من طرق البساط، فقد انطوى"، وهذا التشبيه في مناسبته كالأول، بل أحسن.

ومن ذلك ما ذكرنه في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان، فقلت:

"وما شبهت كتابه في وروده وانقباضه، إلا بنظر الحبيب في إقباله، وإعراضه وكلا الأمرين كالسهم في ألم وقعه وألم نزعه، والمشوق من استوت صبابته في حالتي وصله وقطعه، وما أزال على وجل من إرسال كتبه وإجمامها، واشتباه لممها بإلمامها".

ومما جاء من هذا القسم في الشعر قول بكر بن النطاح٢:

تراهم ينظرون إلى المعالي ... كما نظرت إلى الشيب الملاح

يحدون العيون إلي شذرًا ... كأني في عيونهم السماح

وهذا بديع في حسنه، بليغ في تشبيهه.


١ ابنا شمام، هما هضبتان في أصل جبل يقال له: شمام، يضرب بهما المثل في الاقتران، والاصطحاب قال لبيد:
فهل نبئت عن أخوين داما ... على الأيام غير ابني شمام
٢ كان شاعر حسن الشعر، كثير التصرف فيه، وكان صعلوكا يقطع الطريق. ثم اقتصر عن ذلك، وكان كثيرا ما يصف نفسه بالشجاعة والإقدام، وهو القائل:
هنيئا لإخواني ببغداد ... وعيدي بحلوان قراع الكتائب
وأنشدها أبا دلف، فقال له: إنك لتصف نفسك بالشجاعة، وما رأيت عندك لذل أثرا، فقال: أيها الأمير، وما ترى عند رجل حاسر أعزل؟ فقال: أعطوه سيفا ورمحا ودرعا، فأعطوه ذلك أجمع، فأخذه وركب الفرس وخرج على وجهه، فلقيه مال لأبي دلف يحمل إليه من بعض ضياعه، فأخذه وجرح جماعة من غلمانه، فهربوا وسار بالمال، فلم ينزل إلا على عشرين فرسخا، فلما اتصل خبره بأبي دلف قال: نحن جنينا على أنفسنا وكنا أغنياء عن أهاجته، لو كتب إليه بالأمان، وسوغه المال، وأمره بالقدوم، فرجع، ولم يزل يمدحه حتى مات.

<<  <  ج: ص:  >  >>