وهذا موضع للعلماء فيه مجاذبات جدلية, فمنهم من ينكر أن يكون اللفظ المشترك حقيقة في المعنيين جميعًا ويقول: إن ذلك يخل بفائدة وضع اللغة؛ لأن اللغة إنما هي وضع الألفاظ في دلالتها على المعاني, أي: وضع الأسماء على المسمَّيات لتكون منبئة عنها عند إطلاق اللفظ، والاشتراك لا بيان فيه، وإنما هو ضد البيان، لكن طريق البيان أن يجعل أحد المعنيين في اللفظ المشترك حقيقة والآخر مجازًا.
فإذا قلنا:"هذه كلمة" وأطلقنا القول، فهم منه اللفظة الواحدة، وإذا قيَّدنا اللفظ فقلنا: هذه كلمة شاعرة، فُهِمَ منه القصيدة المقصَّدة من الشعر، وهي مجموع كلمات كثيرة، ولو أطلقنا من غير تقييد وأردنا القصيدة من الشعر لما فهم مرادنا البتة.
هذا خلاصة ما ذهب إليه من ينكر وقوع اللفظ المشترك في المعنيين حقيقة، وفي ذلك ما فيه، وسأبيِّن ما يدخله من الخلل، فأقول في الجواب عن ذلك ما استخرجته بفكري، ولم يكن لأحد فيه قول قبلي, وهو: أما قولك: إن فائدة وضع اللغة إنما هو البيان عند إطلاق اللفظ, واللفظ المشترك يخل بهذه الفائدة، فهذا غير مسلَّم، بل فائدة وضع اللغة هو البيان والتحسين.
أما البيان فقد وفَّى به الأسماء المتباينة التي هي كل اسم واحد دلَّ على مسمَّى واحد، فإذا أطلق اللفظ في هذه الأسماء كان بينًا مفهومًا لا يحتاج إلى قرينة، ولو لم يضع الواضع من الأسماء شيئًا غيرها لكان كافيًا في البيان.
وأما التحسين: فإن الواضع لهذه اللغة العربية التي هي أحسن اللغات, نظر إلى ما يحتاج إليه أرباب الفصاحة والبلاغة فيما يصوغونه من نظم ونثر، ورأى أنَّ من مهمات ذلك "التجنيس"، ولا يقوم به إلّا الأسماء المشتركة التي هي كل اسم واحد دلَّ على مسميين فصاعدًا، فوضعها من أجل ذلك، وهذا الموضع يتجاذبه جانبان يترجَّح أحدهما على الآخر.
وبيانه أن التحسين يقضي بوضع الأسماء المشتركة، ووضعها يذهب بفائدة البيان عند إطلاق اللفظ، وعلى هذا, فإن وَضَعَها الواضعُ ذهب بفائدة البيان، وإن لم يضع ذهب بفائدة التحسين، لكنه إن وضع استدرك ما ذهب من فائدة البيان بالقرينة، وإن لم يضع لم يستدرك ما ذهب من فائدة التحسين، فترجَّح حينئذ جانب الوضع فوضع.