للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس في التجريد المذكور في هذين البيتين ما يدل على وصف النفس، ولا على تزكيتها بالمديح، كما ورد في الأبيات الرائية المتقدم ذكرها، وإنما هو توسع لاغير.

التجريد غير المحض:

وأما القسم الثاني: وهو غير المحض، فإنه خطاب لنفسك لا لغيرك، ولئن كان بين النفس والبدن فرق إلا أنهما كأنهما شيء واحد، لعلاقة أحدهما بالآخر.

وبين هذا القسم والذي قبله فرق ظاهر، وذاك أولى بأن يسمى تجريدًا؛ لأن التجريد لائق به، وهذا هو نصف تجريد؛ لأنك لم تجرد؛ لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئًا، وإنما خاطبت نفسك بنفسك، كأنك فصلتها عنك وهي منك.

فمما جاء منه قول عمرو بن الإطنابة١:

أقول لها وقد جشأت وجاشت ... رويدك تحمدي أو تستريحي٢

وكذلك قول الآخر٣:

أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد٤

وليس في هذا ما يصلح أن يكون خطابًا لغيرك كالأول، وإنما المخاطب هو المخاطب بعينه، وليس ثم شيء خارج عنه.


١ هو عمرو بن الإطنابة أحد بني الخزرج، ومعنى الإطنابة المظلة، واسم أم عمرو هذا، وهو أحد من ملك الحجاز في الجاهلية، وكان شاعرًا مجيدًا.
٢ انظر شرح التبريزي ديوان الحماسة ٢-٢٧٣، وقد رواه "مكانك" موضع "رويدك"، وقد تمثل بالبيت معاوية في إحدى وقعاته مع الإمام علي، وكاد ينهزم، فما لبث أن ثبت مكانه.
٣ أحد بيتين اختارهما أبو تمام في ديوان الحماسة ١/ ٧٣، ونسبهما لأعرابي قتل أخوه ابنًا له، والبيت الآخر:
كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
٤ التأساء هي ما يؤتسى به من الحزن، والتعزية حسن الصبر وقوله: "إحدى يدي أصابتني"، أجراه على المثل والمجاز "والمعنى: أناجي النفس بهذا القول طلبا للتأسي، وحبذا بالقول طلبا للتأسي، وحسن الصبر".

<<  <  ج: ص:  >  >>