للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الذي ذكره أبو علي الفارسي -رحمه الله- فإنه قال: إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنًا فيه كأنه حقيقته ومحصوله، فيخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردًا من الإنسان كأنه غيره، وهو هو بعينه، نحو قولهم: لئن لقيت فلانًا لتلقين به الأسد، ولئن سألته لتسألن منه البحر، وهو عينه الأسد والبحر، لا أن هناك شيئًا منفصلًا عنه أو متميزًا منه.

ثم قال: وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه، حتى كأنه يقاول غيره، كما قال الأعشى:

وهل تطيق وداعًا أيها الرجل١

وهو الرجل نفسه لا غيره.

هذا خلاصة ما ذكره أبو علي رحمه الله.

والذي عندي فيه أنه أصاب في الثاني، ولم يصب في الأول؛ لأن الثاني هو التجريد، ألا ترى أن الأعشى جرد الخطاب عن نفسه، وهو يريدها.

وأما الأول، وهو قوله: "لئن لقيت فلانًا لتلقين به الأسد، ولئن سألته لتسألن منه البحر"، فإن هذا تشبيه مضمر الأداة، إذ يحسن تقدير أداء التشبيه فيه.

وبيان ذلك أنك تقول: "لئن لقيت فلانًا لتلقين منه كالأسد، ولئن سألته لتسألن منه كالبحر"، وليس هذا بتجريد؛ لأن حقيقة التجريد غير موجودة فيه، وإنما هو تشبيه مضمر الأداة، ألا ترى أن المذكور هو كالأسد، وهو كالبحر، وليس ثم شيء مجرد عنه، كما تقدم في الأبيات الشعرية.

ويبطل على أبي علي قوله أيضًا من وجه آخر، وذاك أنه قال: "إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنًا فيه كأنه حقيقته ومحصوله، فخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها


١ هذا عجز مطلع قصيدته المشهورة، وصدر البيت:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وبعدها بعض الرواة إحدى المعلقات.

<<  <  ج: ص:  >  >>