وقال الزمخشري١ رحمه الله: إن الرجوع من الغيبة إلى الخطاب إنما يستعمل للتفنن في الكلام، والانتقال من أسلوب إلى أسلوب، تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه.
وليس الأمر كما ذكره؛ لأن الانتقال في الكلام من أسلوب إلى أسلوب إذا لم يكن إلا تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه، فإن ذلك دليل على أن السامع يمل من أسلوب واحد، فينتقل إلى غيره؛ ليجد نشاطًا للاستماع، وهذا قدح في الكلام، لا وصف له؛ لأنه لو كان حسنا لما مل.
ولو سلمنا إلى الزمخشري ما ذهب إليه لكان إنما يوجد ذلك في الكلام المطول، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك؛ لأنه قد ورد الانتقال من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، ويكون مجموع الجانبين معا يبلغ عشرة ألفاظ، أو أقل من ذلك.
ومفهوم قول الزمخشري في الانتقال من أسلوب إلى أسلوب إنما يستعمل قصدًا للمخالفة بين المنتقل عنه والمنتقل إليه، لا قصدًا لاستعمال الأحسن: وعلى هذا فإذا وجدنا كلاما قد استعمل في جميعه الإيجاز، ولم ينتقل عنه، أو استعمل فيه جميعه الإطناب ولم ينتقل عنه، وكان كلا الطرفين واقعا في موقعه، قلنا: هذا ليس بحسن، إذ لم ينتقل فيه من أسلوب إلى أسلوب، وهذا القول فيه ما فيه.
وما أعلم كيف ذهب على مثل الزمخشري مع معرفته بفن الفصاحة والبلاغة؟
والذي عندي في ذلك أن الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، أو من الغيبة إلى الخطاب، لا يكون إلا لفائدة اقتضتها، وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، غير أنها لا تحد بحد، ولا تضبط بضابط، لكن يشار إلى مواضع منها، ليقاس عليها
١ هو جار الله أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري، وكان إماما في التفسير والنحو واللغة، والأدب واسع العلم كبير الفضل، متفننا في علوم شتى. معتزلي المذهب متجاهرًا بذلك، ولد بزمخشر من أعمال خوارزم سنة ٤٦٧، وتوفى بقصبة خوارزم ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.