غيرها، فإنا قد رأينا الانتقال من الغيبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب، ثم رأينا ذلك بعينه -وهو ضد الأول- قد استعمل في الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فعلمنا حينئذ أن الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجري على وتيرة واحدة، وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود، وذلك المعنى يتشعب شعبا كثيرة لا تنحصر، وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه.
وسأوضح ذلك في ضرب من الأمثلة الآتي ذكرها:
فأما الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، فكقوله تعالى في سورة الفاتحة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .
هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب، وبما يختص الكلام من الفوائد قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بعد قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فإنه إنما عدل فيه من الغيبة إلى الخطاب؛ لأن الحمد دون العبادة، ألا تراك تحمد نظيرك، ولا تعبده؟، فلما كانت الحال كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر، فقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، ولم يقل:"الحمد لك"، ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى الطاعات قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فخاطب بالعبادة إصراحا بها، وتقربا منه عز اسمه بالانتهاء إلى محدود منها.
وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة، فقال:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأصرح الخطاب لما ذكر النعمة، ثم قال:"غير المغضوب عليهم" عطفًا على الأول؛ لأن الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب، فأسند النعمة إليه لفظا وزوى عنه لفظ الغضب تحننا ولطفا.
فانظر إلى هذا الموضع، وتناسب هذه المعاني الشريفة التي لا تكاد تطؤها، الأفهام تدركها مع قربها.