وهذه السورة قد انتقل في أولها من الغيبة إلى الخطاب، لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرها من الخطاب إلى الغيبة، لتلك العلة بعينها، وهي تعظيم شأن المخاطب أيضا؛ لأن مخاطبة الرب تبارك وتعالى بإسناد النعمة إليه تعظيم لخطابه، وكذلك ترك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيم لخطابه.
فانبغى أن يكون صاحب هذا الفن من الفصاحة، والبلاغة عالما بوضع أنواعه في مواضعها على اشتباهها.
ومن هذا الضرب قوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} ١ وإنما قيل: {لَقَدْ جِئْتُمْ} ، وهو خطاب بعد قوله:{وَقَالُوا} ، وهو خطاب للغائب لفائدة حسنة، وهي زيادة التسجيل عليهم بالجراءة على الله تعالى، والتعرض لسخطه، وتنبيه لهم على عظم ما قالوه، كأنه يخاطب قوما حاضرين بين يديه منكرا عليهم، وموبخًا لهم.
ومما جاء من الالتفات مرارًا على قصر متنه، وتقارب طرفيه قوله تعالى أول سورة بني إسرائيل:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
فقال أولا:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} بلفظ الواحد ثم قال: {الَّذِي بَارَكْنَا} بلفظ الجمع، ثم قال:{إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وهو خطاب غائب، ولو جاء الكلام على مساق الأول لكان: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير، وهذا جميعه معطوفا "على أسرى"، فلما خولف بين المعطوف، والمعطوف عليه في الانتقال من صيغة إلى صيغة كان ذلك اتساعا، وتفننا في أساليب الكلام، ولمقصد آخر معنوي هو أعلى وأبلغ.