للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معنى آخر وهو أن هذا الجود قد أمن عليه الآفات العارضة لغيره من المن، والمطل والاعتذار، وغير ذلك إذ التمائم لا تقطع إلا عمن أمنت عليه المخاوف.

على هذا النهج ورد قول أبي الطيب المتنبي في قصيدة يمدح به ابن العميد في النوروز١، ومن عادة الفرس في ذلك اليوم حمل الهدايا إلى ملوكهم، فقال في آخر القصيدة:

كثر الفكر كيف تهدي كما أه ... دت إلى ربها المليك عباده٢

والذي عندنا من المال والخيل ... فمنه هباته وقياده

فبعثنا بأربعين مهارا ... كل مهر ميدانه إنشاده٣

عدد عشته يرى الجسم فيه ... أربا لا يراه فيما يزاده٤

فارتبطها فإن قلبًا نماها ... مربط تسبق الجياد جياده

وهذا من إحسان أبي الطيب المعروف، وهو رجوع عن خطاب الغائب إلى الحاضر، واحتج أبو الطيب عن تخصيص أبياته بالأربعين دون غيرها من العدد بحجة غريبة، وهي أنه جعلها كعدد السنين التي يرى الإنسان فيها من القوة، والشباب وقضاء الأوطار ما لا يراه في الزيادة عليها، فاعتذر بألطف اعتذار في أنه لم يزد القصيدة على هذه العدة، وهذا حسن غريب.


١ ديوان المتنبي ٢-٤٧، والقصيدة في مدح أبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد، وتهنئته بعيد النيروز، وأولها:
جاء نيروزنا وأنت مراده ... وورت بالذي أراد زناده
٢ رواية الديوان "الرئيس" موضع "المليك".
٣ يروى "بأربعين مهار" بالجر، على أنه بدل أو صفة على التأويل، وبالنصب صفة على الموضع، تقديره بعثنا أربعين، والبدل أيضا على الموضع، ليس نصبه على التمييز؛ لأن تمييز "الأربعين" مفرد، والمهار جمع مهر، وهو الفتى من أولاد الخيل.
٤ أي: الأربعون عدد عشته، دعاء له بأن يعيش هذا العدد من السنين على ما عاش، وكان ابن العميد قد جاوز السبعين، وناهز الثمانين في هذا الوقت، والمعنى: زاد الله في عمرك هذا العدد، والجسم لا يرى من أرب العيش فيما زاد على الأربعين ما كان يراه فيما دونه، فلهذا اختار هذا العدد، فجعل القصيدة أربعين بيتا، قال أبو الفتح: الأربعون إذا تجاوزها الإنسان نقص عما يعهد من أحواله في جسمه وتصرفه.

<<  <  ج: ص:  >  >>