وهذا الفصل الذي نحن بصدد ذكره ههنا يرجع أكثره إلى التأويل؛ لأنه أدق.
ولا يخلو تأويل المعنى من ثلاثة أقسام: إما أن يفهم منه شيء واحد لا يحتمل غيره، وإما أن يفهم منه الشيء وغيره، وتلك الغيرية: إمَّا أن تكون ضدًّا، أو لا تكون ضدًّا، وليس لنا قسم رابع.
فالأول: يقع عليه أكثر الأشعار، ولا يجري في الدقة واللطافة مجرى القسمين الآخرين.
وأما القسم الثاني: فإنه قليل الوقوع جدًّا، وهو من أظرف التأويلات المعنوية؛ لأن دلالة اللفظ على المعنى وضدَّه أغرب من دلالته على المعنى وغيره مما ليس بضده، فمِمَّا جاء منه قول النبي -صلى الله عليه وسلم:$"صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ في غيره من المساجد إلّا المسجد الحرام" فهذا الحديث يستخرج منه معنيان ضدان:
أحدهما: أن المسجد الحرام أفضل من مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
والآخر: أن مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل من المسجد الحرام, أي: إن صلاة واحدة فيه لا تفضل ألف صلاة في المسجد الحرام، بل تفضل ما دونها، بخلاف المساجد الباقية, فإن ألف صلاة فيها تقصر عن صلاة واحدة فيه.
وكذلك جاء قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا من كلام النبوة: "الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" , وهذا يشتمل على معنيين ضدين:
أحدهما: أن المراد به إذا لم تفعل فعلًا تستحي منه فافعل ما شئت. والآخر: أن المراد به إذا لم يكن لك حياء يزعك عن فعل ما يُسْتَحَى منه فافعل ما شئت، وهذان معنيان ضدَّان، أحدهما مدح، والآخر ذم.
ومثله ورد في الحديث النبوي أيضًا، وذلك أنه ذكر شريح الحضرمي عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا يتوسَّد القرآن" وهذا يحتمل مدحًا وذمًّا، أمَّا المدح فالمراد به أنه لا ينام الليل عن القرآن, فيكون القرآن متوسِّدًا معه لم يتهجد به، وأمَّا الذم فالمراد به أنه لا يحفظ من القرآن شيئًا، فإذا نام لم يتوسَّد معه القرآن، وهذان التأويلان من الأضداد. وكثيرًا ما يرد أمثال ذلك في الأحاديث النبوية.
ويجري على هذا النهج من الشعر قول أبي الطيب في قصيدة يمدح بها كافورًا: