للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثالث: أنه ليس كل قتل نافيا للقتل، إلا إذا كان على حكم القصاص١.

وقد صاغ أبو تمام هذا الوارد عن العرب في بيت من شعره، فقال٢:

وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم ... إن الدم المعتر٣ يحرسه الدم

فقوله: "إن الدم المعتر٣ يحرسه الدم"، أحسن مما ورد عن العرب من قولهم: "القتل أنفى للقتل".

ويروى عن معن بن زائدة٤ أنه سأله أبو جعفر المنصور، فقال له: أيما أحب إليك: دولتنا أو دولة بني أمية، فقال: ذاك إليك!

فقوله: "ذاك إليك" من الإيجاز بالقصر الذي لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة،


١ قال أبو هلال العسكري: والإيجاز: القصر والحذف، فالقصر تقليل الألفاظ وتكثير المعاني، وهو قول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، ويتبين فضل هذا الكلام إذا قرنته بما جاء عن العرب في معناه، وهو قوله: "القتل أنفى للقتل"، فصار لفظ القرآن فوق هذا القول، لزيادته عليه في الفائدة، وهو إبانة العدل لذكر القصاص، وذكر العوض المرغوب فيه لذكر الحياة، واستدعاء الرغبة والرهبة لحكم الله به، ولإيجازه في العبارة، فإن الذي هو نظيره قولهم: "القتل أنفى للقتل"، إنما هو: {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، وهذا أقل حروفا من ذلك، ولبعده من الكلفة بالتكرير، وهو قولهم: "القتل أنفى للقتل، ولفظ القرآن بريء من ذلك، وبحسن التأليف، وشدة التلاؤم المدرك بالحسس؛ لأن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة "وانظر الصناعتين ١٧٥".
٢ ديوان أبي تمام ٢٧٤ من قصيدة له في مدح مالك بن طوق، مطلعها:
أرض مصردة وأخرى تثجم ... تلك التي رزقت وأخرى تحرم
والمصردة التي لا تنال من السقي إلا قليلًا، وتثجم تمطر على الدوام.
٣ في الأصل "المغبر" والتصويب عن الديوان ومعنى المعتز المضطرب.
٤ هو معن بن زائدة الشيباني، أحد أجواد العرب وفرسانهم، وكان في أيام بني أمية متنقلا في الولايات، ومنقطعا إلى يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين، فما انتقلت الدولة إلى بني العباس، وجرى بين أبي جعفر المنصور، وبين يزيد بن عمر ما جرى من محاصرة واسط أبلى معن مع يزيد بلاء حسنا، فلما قتل يزيد هرب معن خوفا من المنصور، ثم دخل معن في شيعة المنصور، وصار من خواصه، وقتل معن بسجستان إذ كان واليا عليها سنة ١٥٢هـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>