للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي القرآن الكريم من هذا النوع كثير، كقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} ١.

وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ٢.

وكل هذه الآيات إنما أطنب فيها بالتأكيد لمعان اقتضتها، فإن النفخ في الصور الذي تقوم به الأموات من القبور مهول عظيم، دل على القدرة الباهرة، وكذلك حمل الأرض والجبال.

فلما كانا بهذه الصفة قيل فيهما: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} ، و {دَكَّةً وَاحِدَةً} ، أي: أن هذا الأمر المهول العظيم سهل يسير على الله تعالى يفعل ويمضي الأمر فيه بنفخة واحدة ودكة واحدة، ولا يحتاج فيه إلى طول مدة، ولا كلفة ولا مشقة.

فجيء بذكر الواحدة لتأكيد الإعلام بأن ذلك هين سهل على عظمه.

وهذه المواضع وأمثالها ترد في القرآن الكريم، ويتوهم بعض الناس أنها ترد لغير فائدة اقتضتها، وليس الأمر كذلك، فإن هذه الأسرار البلاغية لا ينتبه لها إلا العارفون بها، وهكذا يرد ما يرد منها في كلام العرب.

وههنا نكتة لا بد من الإشارة إليها، وذاك أني نظرت في قوله تعالى: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} ، و {دَكَّةً وَاحِدَةً} ، وفي قوله تعالى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ، فوجدت ذلك غير مقيس على ما تقدم، وسأبينه ببيان شاف، فأقول:

إن قوله تعالى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ، إنما جيء به لتوازن الفقر التي نظمت السورة كلها عليها، وهي: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ، ولو قيل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ} ، ولم يقل: "الثالثة الأخرى"؛ لكان الكلام عاريا عن الطلاوة والحسن، وكذلك لو قيل: ومناة الأخرى، من غير أن يقال: "الثالثة"؛ لأنه نقص في الفقرة الثانية عن الأولى، وذاك


١ سورة الحاقة: الآيتان ١٣ و١٤.
٢ سورة النجم: الآيتان ١٩ و٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>