للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما يجري على هذا النهج ما يُحْكى عن "أفلاطون" أنه قال: ترك الدواء دواء، فذهب بعض الأطباء أنه أراد أنَّ لُطْفَ المزاج انتهى١ إلى غاية لا يحتمل الدواء، فتركه حينئذ والإضراب عنه دواء، وذهب آخرون إلى أنه أراد بالترك الوضع, أي: وضع الدواء على الداء دواء، يشير بذلك إلى حذق الطبيب في أوقات علاجه.

ومثله في الشعر قول الفرزدق:

إذا جعفر مرَّت على هضبة الحمى ... فقد أخزت الأحياء منها قبورها٢

وهذا يدل على معنيين: أحدهما: ذم الأحياء، والآخر: ذم الأموات، أما ذم الأحياء فهو أنهم خذلوا الأموات، يريد أنهم تلاقوا في قتالهم وقومًا آخرين, ففر الأحياء عنهم وأسلموهم، أو أنهم استنجدوهم فلم ينجدوهم، وأمَّا ذم الأموات فهو أن لهم مخازي وفضائح توجب عارًا وشنارًا، فهم يعيرون بها الأحياء ويلصقونها بهم. وعلى هذا ورد قول أبي تمام:

بالشعر طولٌ إذا اصطكَّت قصائده ... في معشرٍ، وبه عن معشرٍ قصر٣

فهذا البيت يحتمل تأويلين: أحدهما أن الشعر يتَّسع مجاله بمدحك, ويضيق بمدح غيرك، يريد بذلك أن مآثره كثيرة، ومآثر غيره قليلة، والآخر: أن الشعر يكون ذا فخر ونباهة بمدحك، وذا خمول بمدح غيرك، فلفظة "الطول" يفهم منها ضد القِصَر، ويفهم منها الفخر، من قولنا: " طال فلان على فلان" أي: فخر عليه. ومما ينتظم بهذا السلك قول أبي كبير الهذلي:

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلمَّا انقضى ما بيننا سكن الدهر

وهذا يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما أنه أراد بسعي الدهر سرعة تقضِّي الأوقات مدة الوصال، فلما انقضى الوصل عاد الدهر إلى حالته في السكون


١ في الأصل "وانتهى".
٢ في الأصل "أخذت" وهو تحريف، ورواية الديوان "ص٤٦١":
إذا جعفر مرَّت على هضبة الحمى ... تقنع إذ صاحت إليها قبورها
والبيت من قصيدة للفرزدق يهجو بها بني جعفر بن كلاب بن ربيعة بن صعصعة.
٣ ديوان أبي تمام ١٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>