للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ١ فالجلود ههنا تُفَسَّرُ حقيقة ومجازًا, أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقًا، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة، وهذا هو الجانب البلاغي، الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة، لما فيه من لطف الكناية عن المكنّى عنه، وقد يسأل ههنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز من غير الجانب البلاغيِّ، ويقال: ما بيان هذا الترجيح? فيقال: طريقه لفظ الجلود عامّ, فلا يخلو إمَّا أن يراد به الجلود مطلقًا, أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال الخاصة، ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق؛ لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة شهادة باطلة؛ إذ هي شهادة غير شاهد، والشهادة هنا يراد بها الإقرار، فتقول اليد: أنا فعلت كذا وكذا، وتقول الرجل: أنا مشيت إلى كذا وكذا، وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرَّةً بأعمالها، فترجَّح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح، وإذا أريد به الجوارح فلا يخلو إمَّا أن يراد به الكل أو البعض، فإن أريد به الكل دخل تحته السمع والبصر، ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة، وإن أريد به البعض فهو بالفرج أخصّ منه بغيره من الجوارح، لأمرين؛ أحدهما: إن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج، فكان حمل الجلد عليه أولى، ليستكمل ذكر الجميع، الآخر: إنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلّا الفرج، فكنِّي عنه بالجلد؛ لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمَّى على حقيقته.

فإن قيل: إن تخصيص السمع والبصر بالذكر من باب التفصيل، كقوله تعالى: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} ٢ والنخل والرمان من الفاكهة..

قلت في الجواب: هذا القول عليك لا لك؛ لأن النخل والرمان إنما ذكر التفضيل لهما في الشكل أو في الطعم، والفضيلة ههنا في ذكر الشهادة إنما هي تعظيم لأمر المعصية، وغير السمع والبصر أعظم في المعصية؛ لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة، أو في سماع صوت مزمار أو وتر، أو ما جرى هذا المجرى.


١ سورة فصلت، الآيتان: ١٩، ٢٠.
٢ سورة الرحمن: آية ٦٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>