للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى مُحَرَّم، وكلتا المعصيتين لا حدَّ فيهما، وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر فأعظم؛ لأن معصية اليد توجب القطع، ومعصية الفرج توجب جلد مائة أو الرجم، وهذا أعظم، فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر، وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه فلم يكن المراد بالجلود إلّا الفروج خاصة.

وأما مثال المعنيين إذا كانا حقيقيَّيْن فقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "التمسوا الرزق في خبايا الأرض" والخبايا جمع خبية، وهو كل ما يُخْبَأ كائنًا ما كان، وهذا يدل على معنيين حقيقيِّين: أحدهما الكنوز المخبوءة في بطون الأرض، والآخر: الحرث والغراس، وجانب الحرث والغراس أرجح؛ لأن مواضع الكنوز لا تعلم حتى تلتمس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر بذلك؛ لأنه شيء مجهول غير معلوم، فبقي المراد بخبايا الأرض ما يحرث ويغرس.

وكذلك ورد قوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا ابتلَّت النعال فالصلاة في الرحال" , وهذا الحديث مرخِّصٌ في ترك صلاة الجماعة بسبب المطر، وله تأويلان: أحدهما: إنه أراد نعال الأرض، وهو ما غلظ منها، والآخر: إنه أراد الأحذية، والوجه هو الثاني، لظهوره في الدلالة على المعنى، وأكثر العلماء عليه، ولو كان المراد به غلظ من الأرض لخرج عن هذا الحكم كل بلد تكون أرضه سهلة لا غلظ فيها.

وأما أمثال المعنيين المجازيين فقول أبي تمام١:

قد بلونا أبا سعيدٍ حديثًا ... وبلونا أبا سعيدٍ قديما

ووردناه ساحلًا وقليبًا ... ورعيناه بارضًا وجميما٢

فعلمنا أن ليس إلّا بشق النـ ... ـفس صار الكريم يدعى كريما٣

فالساحل والقليب يستخرج منهما تأويلان مجازيَّان: أحدهما: إنه أراد بهما الكثير والقليل بالنسبة إلى الساحل والقليب، والآخر: إنه أراد بهما السبب، وغير السبب،


١ ديوان أبي تمام ٢٩٢ من قصيدته التي مطلعها:
إن عهدًا لو تعلمان ذميمًا ... أن تناما عن ليلتي أوتنيما
٢ رواية الديوان "ووردناه سائحًا وقلبيا" والسائح: الماء الجاري، والقليب: البئر، والبارض: أول النبات، والجميم: النبات الطويل المنتشر، وهو في الأصل "حميما" بالحاء وهو تصحيف.
٣ في الأصل "إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ" وفيه اختلال في الوزن، والصواب عن الديوان ٢٩٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>